إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

حكمة العيد

حركة الوجود لا تتوقف منذ بدأ، فأصل الوجود وجود الواجد الذي أوجده، ووجود الواجد لا يتوقف ولا ينتهي؛ لأنه دائم العطاء ولا يتوقف اسمه على الفعل فتبارك اسمه الجواد الذي جاد ولا يزال، والإنسان من فضل هذا الوجود، لأجل هذا سكن في الإنسان حب الحياة أولًا وحب الوجود ثانيًا؛ لأن الحب إذا سكن في صاحبه واستقر يتحد مع مبدئه الأول اتحادًا نسميه وجدًا، فما أكمل القلب الذي استقر فيه حب الوجود وتعلقت همته بالجواد وتواجد معه وهام.
إن حركة الوجود إذن حركة وجد، والوجدان هو المُعبر الأعمق عن هذا الجوهر الفياض والنبع الذي لا يتوقف جوده وعطاؤه، فالقلوب تسكنها الأرواح التي تعارفت وتلاقت ومهما اختلفت اتحدت، لأن الاختلاف جسماني والوحدة روحانية، وإن فرقتنا الأهواء فإن القلوب تجمعنا وإن شتتتنا العقول فالحب يوحّدنا؛ لأن الله رحمان رحيم خلق العالم بجوده فكان الإنسان من فيض هذا الخلق وهذا الجود، فويل للقاسية قلوبهم من النار، وويل للقلوب التي استوحشتها الأطماع وسكنتها الأوجاع وغفلت عن جوهرها وازدادت حجبها فلم تعد تبصر بعينيها ولا بقلبها وازدات عن الله بعدا فعمها الظلامن وويل لمن أغمض عينبه ولعن الظلام.
افتح عينيك لترى النور وتدرك سر الحركة وتكشف أن وراء تلك الحركة نورًا محركًا هو نور الشوق الذي كلما ازداد زاد إلهام مدركه وعلم أن النور أصل كل شيء وحقيقة كل أمر، فيتحد النوران نور الوجدان ونور الوجود ويقال عندها نور على نور.
وداخل الحركة يوجد ثابت العطاء وقوة الإنشاء والإبداع، قوة واحدة دائمة لا تعرف تحولًا ولا تبدلًا ولا زيادة ولا نقصانًا. وهمّ العقول معرفتُه وهمّ القلوب محبتُه، فطوبى لمن اتحد عقله وقلبه في معرفته وحبه فعلم علم اليقين أن السرّ في جوهر نفسه كامن “وفي أنفسكم افلا تبصرون”.
يتحرك الوجود، وقوتُه المحركة ثابتة فيه لا تأخذها سنة ولا نوم، تحرس حركته وتمنحه من فيضها الذي لا ينضب، ويعتاد الإنسان هذه الحركة وتنتظم حياته وفقها فيدرك ثابت الليل والنهار، والفصول والأعوام، والزمان والدهور ويدرك الولادة والموت ويفهم الأحداث التي يصنعها أو التي تمر أمامه، حدث ولادة وحدث وفاة، حدث كون وحدث فساد، حدث بناء وحدث هدم، حدث نمو وحدث هرم…. زمان متحرك لا يعرف توقفًا ولا استقرارًا وأحداث تملأ العالم، وبناء حضارات وهدم أخرى…. دول تتداول، والفرد فيها فانٍ والإنسان فيها باق يتعلم من حركة الزمان دروسًا وعبرًا يعلّمها للأجيال وينقلها الأجدادُ إلى الأحفاد، يعلّمونهم سر نهر الوجود المتحرك، وضرورة أخذ عبر حركته وتدفقه، وينقلون إليهم حكمة أيامه، حكمة الانتصار والهزيمة، والعدل والظلم، والحب والكراهية، وأن وراء هذه الحركة وهذا النهر السيال أحداثًا يصنعها الإنسان ويجعلها محطات يعود إليها، وما المدارس وما العلم وما التعلم إلا نقل لهذه التجارب والأحداث إلى الأجيال، وما الحكمة إلا إدراك جوهر الحياة واستعادة أحداثها وتجاربها ونجاحاتها وإخفاقاتها، ويقال لهذه الاستعادة عيدًا.
والعيد عيد لأنه يعود، ووقته في الذاكرة واحد وثابت، يستعمله الإنسان علامة يهتدي بها وإليها يعود ليقوّم مساره ويوجه دفة سفينته فلا يتوه أبدًا، والأمم صنعت من عاداتها أعيادًا تعود إليها وتجتمع عليها وتتفق حولها، فالعيد عيد لأنه يعود فيه الفرح والحزن، ونستحضر فيه العلامات، ونلتقط الأنفاس ونجدد الحياة فنستعيد جذوة النور والنار ونبدأ من جديد، إنها العادة التي تستقر فيها حركة الوجود والنقطة التي تثبتها حركتَها الأيامُ، والعادةُ هي التي تنتظم بها أمور البشر وحركتهم وأفعالهم وفكرهم وقيمهم وتسير في خط أهليليجي لا يعود إلى نقطة البدء أبدًا، وإنما يعود إلى مثيلتها فتصير العادة نموذج الفعل والفكر ومثال القيم التي تقوم بها الحياة وتستقيم، والعادة نفسها سميت دينًا، والدين هو العادة والشأن، تقول العرب : ما زال ذلك ديني وديدني أي عادتي، وكلما عاد الإنسان إلى نقطة بدايته واعتاد هذه العودة سمّيت هذه العادة عيدًا واستحضر فيها ما كان وما يأمل أن يكون، فيكون العيد نقطة فصل بين زمان ولّى وزمان ناشئ، فالعيد نتاج تأمل لحركة الزمان وتنظيم لها سواء كانت تلك الحركة يومًا أو شهرًا أو سنة أو دهرًا، والناس يتخذون من بعض أيامهم عيدًا؛ لارتباطها بحدث ما أعاد توجيه حياتهم وأثر فيها، ولعل سيرورة الزمن المعلومة التي قدر الله منازلها “والقمر قدرناه منازل” لنعلم “عدد السنين والحساب” هي الإطار الأمثل والإحداثية الأكمل لتأطير حركة الإنسان وسعيه واستخلافه، فكانت سنوات الميلاد والوفاة وسنوات الخصب والجفاف وسنوات الحرب والسلم والانتصار والهزيمة والنجاح والفلاح….علامات نعود إليها وأعيادًا تعود إلينا.
إن دورة الزمان تفعل فينا فعلها، وحركة الأفلاك تُجسّم هذه الدورة “إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض” دورة متكررة لا تتوقف، ولكن الإنسان يتوقف عندها؛ لأنها تعود إليه ما دام حيًا وتأتيه بالأمل من جديد؛ لأن في بداية كل أمر يُخلق الأمل من جديد في الحياة وتندفع طاقة حياة أخرى مليئة بالآمال والأحلام.
تعلّم الإنسان عودة الزمان وتعلّم رصد حركته وآمن بأن وراء الحركة الزمنية حياة أخرى وعهدًا جديدًا، فكانت الأعياد تتوالى حاملة معها عودة الأمل من جديد، لأن كل بداية تذكّرنا ببداية الخلق وسريان الوجود فينا، فنتخذ من بداية حركة الفلك عيدًا ومن نهايته عيدًا ومن بعض أحداثه عيدًا…. إنها الأيام التي خلقها الله لنحياها ونملأها، نجعل من بعضها عيدًا نحلم بعودته دومًا وننتظر حلوله كل مرة، فالأمة بأعيادها تقاس، أي بحركة الأيام التي صنعتها واتخذتها علامة حركة وهداية لها، والفرق بين الأمم الغنية والفقيرة بعود إلى غنى أيامها وفقرها، فرأس السنة عيد تلتقي فيه نهاية الدورة وبدايتها، ومولد عظماء التاريخ عيد نستحضر فيه المجد والخلود، فكانت أعياد الأنبياء وأعياد ميلاد الأمم وغيرها من نقاط التاريخ التي ثبتناها وجعلناها تعود إلينا باستمرار جيلًا بعد جيل لنجدد الحياة معها.
يبدو أن فيض الوجود قائم لا ينقطع والدهر حاكم بأمره والإنسان خاضع لتلك الحركة؛ لأنه ابن الزمان لا قدرة له على الخروج عنه والتخلص منه، فكان العيد حيلة العقل وحكمة القلب يثبّت فيها الإنسان الأيام التي يريدها وكأنه يثبّت الزمن ويحكم عليه بالتوقف بعض اللحظات، فما أجمله من عيد يستحضر فيه الإنسان لحظة الانبثاق الأول لحظة انبثاق الحياة والأمل، لحظة تعلن للذاكرة إن للكون بداية يؤمن بها وأن له نهاية ينتظرها، وعند حصولها يحدث العيد الأكبر، والعيد الأكبر هو اليوم الذي سيعود فيه الزمن إلى أصله الذي انبثق منه ويعود الإنسان إلى باريه الذي أوجده، وتعود الدنيا إلى الآخرة التي تنتظرها، في لحظة العيد الأكبر يعود كل فرع إلى أصله وتنكشف حجب الحق أمام النفس التي سعت في حياتها جاهدة إلى مقاومة الحجب بالمعرفة والتأمل والطهارة والتعبد، فيقال لمن فارق الزمان الأول متجها للزمان الآخر “يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي”  هذه الرجعة هي العودة التي تعيد بالأنفس إلى نبع الوجود وفيض الخلق، وتدرك النفس وقتها إن العالم حجاب يحجب عنا نور الله وأنه لا يمكن للحجاب أن ينقشع إلا برياضة النفس حبًا لله وسيرًا في طريقه، حتى إذا ما انتهت دورة الزمان الكبرى وعادت لحظة الخلق الأولى تجد تلك النفس ذاتها ناضرة إلى ربها ناظرة؛ لأن الله كشف عنها حجابها فبصرها اليوم حديد، ذاك إذن هو العيد الأكبر لأنه لا يعود إلا مرة واحدة يكون فيها الجزاء وتكون فيه الرحمات لأنه يوم الدين، وما بين هذا اليوم الموعود والأيام التي تمرّ وتتحرك نعيش أيام الله وأعياده وسننه لأجل هذا كان الأمر”وذكرهم بأيام الله”.

فيا أيها الإنسان تذكر أيام الله واستعدها واجعلها عيدًا يعود باستمرار لتعرف سر الخلق وسر الحركة استعدادًا للعودة الأبدية والعيد الأكبر الذي يكون فيه الاحتفال بلا زمان ينغصه ولا فناء يهدده، إنه جزاء لا يحسن أن نقول عنه إلا كونه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

==============
د. نور الدين السافي

مفكر وكاتب تونسي

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. المقال ممتع وجميل، وحقا يدورالزمان وتتنافس الايام ويبقى العيد عيد حتى ولو غاب سعيد

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88