أربعين سنة
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} يَقُول تَعَالَى ذِكْره: وَوَصَّيْنَا ابْن آدَم بِوَالِدَيْهِ الْحُسْن فِي صُحْبَته إِيَّاهُمَا أَيَّام حَيَاتهمَا، وَالْبِرّ بِهِمَا فِي حَيَاتهمَا وَبَعْد مَمَاتهمَا، ثُمَّ وَصَفَ -جَلَّ ثَنَاؤُهُ- مَا لَدَيْهِ مِنْ نِعْمَة أُمّه، وَمَا لَاقَتْ مِنْهُ فِي حَال حَمْله وَوَضْعه، وَنَبَّهَهُ عَلَى الْوَاجِب لَهَا عَلَيْهِ مِنْ الْبِرّ، وَاسْتِحْقَاقهَا عَلَيْهِ مِنْ الْكَرَامَة وَجَمِيل الصُّحْبَة، فَقَالَ: {حَمَلَتْهُ أُمّه} يَعْنِي فِي بَطْنهَا كُرْهًا، يَعْنِي مَشَقَّة، وَوَضَعَتْهُ وَوَلَدَتْهُ كُرْهًا يَعْنِي مَشَقَّة.
وَحَمْل أُمّه إِيَّاهُ جَنِينًا فِي بَطْنهَا، وَفِصَالهَا إِيَّاهُ مِنْ الرَّضَاع وَفَطْمهَا إِيَّاهُ شُرْب اللَّبَن استغرق كل ذلك ثَلَاثين شَهْرًا.
وَقَوْله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدّهُ} اخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي مَبْلَغ حَدّ ذَلِكَ مِنْ السِّنِينَ، فَقَالَ بَعْضهمْ: هُوَ ثَلَاث وَثَلَاثُونَ سَنَة، وَاسْتِوَاؤُهُ أَرْبَعُونَ سَنَة.
وقيل الْأَشُدّ: الْحُلُم إِذَا كُتِبَتْ لَهُ الْحَسَنَات، وَكُتِبَتْ عَلَيْهِ السَّيِّئَات.
وَقَوْله تعالى: {وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَة} ذَلِكَ حِين تَكَامَلَتْ حُجَّة اللَّه عَلَيْهِ وَسَيَّرَ عَنْهُ جَهَالَة شَبَابه وَعَرَفَ الْوَاجِب لِلَّهِ مِنْ الْحَقّ فِي بِرّ وَالِدَيْهِ، وَقَدْ مَضَى مِنْ سَيِّئ عَمَله.
وَقَوْله تعالى: {قَالَ رَبّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُر نِعْمَتك الَّتِي أَنْعَمْت عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ}. يَقُول تَعَالَى ذِكْره: قَالَ هَذَا الْإِنْسَان الَّذِي هَدَاهُ اللَّه لِرُشْدِهِ، وَعَرَفَ حَقّ اللَّه عَلَيْهِ فِيمَا أَلْزَمهُ مِنْ بِرّ وَالِدَيْهِ {رَبّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُر نِعْمَتك}، يَقُول: أَغْرِنِي بِشُكْرِ نِعْمَتك الَّتِي أَنْعَمْت عَلَيَّ فِي تَعْرِيفك إِيَّايَ تَوْحِيدك وَهِدَايَتك لِي لِلْإِقْرَارِ بِذَلِكَ، وَالْعَمَل بِطَاعَتِك {وَعَلَى وَالِدَيَّ} مِنْ قَبْلِي وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ نِعَمك عَلَيْنَا.
وأوْزِعْنِي أَنْ أَعْمَل صَالِحًا مِنْ الْأَعْمَال الَّتِي تَرْضَاهَا، وَذَلِكَ الْعَمَل بِطَاعَتِهِ وَطَاعَة رَسُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَصْلِحْ لِي أُمُورِي فِي ذُرِّيَّتِي الَّذِينَ وَهَبْتهمْ، بِأَنْ تَجْعَلهُمْ هُدَاة لِلْإِيمَانِ بِك وَاتِّبَاع مَرْضَاتك، وَالْعَمَل بِطَاعَتِك فَوَصَّاهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِالْبِرِّ بِالْآبَاءِ وَالْأُمَّهَات وَالْبَنِينَ وَالْبَنَات، وَذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْر الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
وقد تُبْت مِنْ ذُنُوبِي الَّتِي سَلَفَتْ مِنِّي فِي سَالِف أَيَّامِي إِلَيْك، وَإِنِّي مِنْ الْخَاضِعِينَ لَك بِالطَّاعَةِ، الْمُسْتَسْلِمِينَ لِأَمْرِك وَنَهْيك، الْمُنْقَادِينَ لِحُكْمِك.
آية رائعة بدأت ببر الوالدين، وانتهت بالتوبة، وتوسطت بذكر الوصول لمحطة الاستواء والنضج الكامل، الذي يجعل الإنسان في متوسط العمر يحسن شكر ربه وعمل الطاعات.
نسأل الله شكرًا يرضيه، وحكمة ورشدا.
بقلم/ د. فاطمة عاشور