إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

عندما تصبح (اللامبالاة) فنًّا يستحوذ على اهتمام البشر! (1/2)

ليس جديدًا أن يحظى كتابٌ من كتب التطوير الذاتي، والتنمية الشخصية بوسم أكثر الكتب مبيعًا حول العالم، سواءً في نسخته الأصل باللغة الإنجليزية، أو في نسخ ترجماته إلى مختلف لغات العالم؛ فهذا أمرٌ معروفٌ ومألوفٌ في عالم نشر الكتب والتسويق، وكثيرٌ من أنواع هذه الكتب حققت ذلك، وما زالت تحققه لأسبابٍ عدَّةٍ ليس هنا مجال تفصيلها.

لكن الجديد والمدهش أنَّ الكتاب الذي هو موضع (اشتيارنا) اليوم، حقق تلك السِمَّة بفرادةٍ لافتةٍ، ورغم أنَّه يصنف ضمن كتب التطوير الذاتي، غير أنَّه ينسف طروحات كثيرة منها، ويدفع بقارئه بأسلوب حجاجيٍّ مقنعٍ للشك فيها، وإعادة النظر بعمقٍ، ومن زوايا مختلفة فيما قد رسخته من رؤى وأفكارٍ ومقترحاتٍ لتحسين وتغيير نمط حياته ومسلماته.

عنوان الكتاب –كما هو مبين في صورة غلافه أعلاه- (فن اللامبالاة)، ومؤلفه هو الأمريكي: (مارك مانسون)، وصدر عام 2016 م، وظهرت ترجمته العربية في الأسواق العام الماضي 2018 م. ونقله إلى اللغة العربية المترجم السوري “الحارث النبهان”، وصدر عن منشورات الرمل، التابعة لدار التنوير، ويتوفر في مكتبات “جرير” وغيرها، كما أنَّه متوفر على النت أيضًا.

زاد كثيرًا من حظوظ انتشار هذا الكتاب في العالم العربي خصوصًا ظهور صورة شخصيةٍ لــــ (محمد صلاح) اللاعب المصري؛ والرمز الكبير في عالم كرة القدم، وهو يقرأ في ذلك الكتاب، وبعد انتشار تلك الصورة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، اطلع عليها الملايين، ومن بينهم مؤلف الكتاب، الذي سَعِدَ بها وسرَّ سرورًا عظيمًا، مما دفعه إلى كتابة ونشر التغريدة الموجزة التالية:

“Much love @MoSalah. Enjoy.”.

والتي يمكننا ترجمتها بالمعنى إلى: “كثيرٌ من الحب لك محمد صلاح. استمتع بالقراءة”.

لا بد أن القارئ الكريم متشوقٌ الآن لمعرفة شيءٍ عن طروحات الكتاب التي جعلت منه ملء الدنيا، وشاغل الناس قبل صلته بالنجم “محمد صلاح” وبعده.

لعلَّ الفرق الذي يميز هذا الكتاب عن آلاف الكتب في نفس مجاله، حثُّ قارئه وتحفيزه بعد إقناعه بأنَّه ليس هناك حياةٌ بلا مشاكل، وأنَّ حلَّ أيِّ مشكلةٍ تواجه الإنسان في حياته ليس إلا بدايةً لمشاكل جديدةٍ مختلفةٍ، والكتاب يَسْخَرُ من فكرةٍ كثيرًا ما تروج لها كتب ودورات التطوير والتنمية البشرية، وهي ضرورة السعي المضني نحو الكمال، والكفاح من أجل نيل السعادة المتوهمة، بل يحث على تقبل الحياة كما هي ابتداءً، ومن ثمَّ الشروع في تغيير ما يمكن تغييره، شريطة ألَّا يكون ذلك التغيير حائلًا بين الإنسان وبين الاستمتاع باللحظة. الشغف بتحقيق الأحلام كما هو جليٌّ لدى الأمريكان خصوصًا موضع تندرٍ وتهكمٍ عند صاحبنا (مارك مانسون).

يرى المؤلف أنَّ الإنسان لا يجب بالضرورة أن يكون إيجابيًّا طوال الوقت، ويؤكد أن المفتاح إلى قوة الإنسان وسعادته يكمن في تعامله مع الشدائد تعاملاً أفضل. ويقول: “لنكن صادقين، الشيء السيء سيءٌ، وعلينا أن نتعايش مع هذا ولا نتهرب من الحقائق، ولا نغلّفها بالسُكَّرِ، بل نقولها كما هي: جرعةٌ من الحقيقة الفجَّة الصادقة المنعشة، وهو الأمر الذي ينقصنا اليوم”.

يصر الكاتب على أنّه لا يريد أن يُعَلِّمَ قارئ كتابه كيف يكسب أموالاً طائلةً، بل يريد أن يعلمه كيف عندما يخسر المال، ألَّا تكون تلك الخسارة مصدر قلقٍ كبيرٍ له.

وفي موضع آخر من كتابه يشير المؤلف إلى: أن الأطفال الذين يتطلعون لمديح الناس، تكون حياتهم مُكرسةٌ لجذب الانتباه وسماع الإطراء؛ لأنهم لم يدركوا بعد قيمة حياتهم. وكذلك الكبار يدركون مع تقدم العمر، وزيادة الخبرات والتجارب أنَّ قسمًا كبيرًا مما كرسوا حياتهم ومشاعرهم وردود أفعالهم له، ليس له أثرٌ حقيقي فاعلٌ أو مؤثرٌ في حياتهم.

يضرب المؤلف بــ (بوذا) مثالًا على نشدان السعادة الوهم، حيث لم يجدها طيلة سنواته التي قضاها في قصر والده منعمًا مترفًا، ولم يجدها أيضًا عندما تسلل هاربًا من القصر ليعيش ويتعايش مع الفقراء، والمعدمين، والمشردين، اعتقادًا منه أن السعادة في المعاناة!

يقول المؤلف: “تأتي السعادة من حلِّ المشاكل، وليس من عدم وجودها في حياتنا، ولكن كثيرًا من الناس يميلون إلى إنكار مشاكلهم، وإلقاء اللوم على الآخرين، لأنَّ ذلك مهربٌ سهلٌ يبعث على الراحة النفسية”.

​يظهر وعي المؤلف الحصيف بسلبيات التكنولوجيا المعاصرة، ووسائل التواصل الاجتماعي، ويقول في هذا الصدد: “إن فيضان المعلومات من حولنا يدفعنا إلى القنوط، وقلة الأمان لأننا لسنا مثل أولئك الناس (يقصد المشاهير)؛ الذين يصلنا كل تفصيلٍ مملٍ من تفاصيل حياتهم في وسائل التواصل الاجتماعي، ونشعر أنَّنا بحاجة إلى تعويض ذلك كله؛ من خلال الشعور الزائد بالاستحقاق، مما يضطرنا إلى تضخيم ذواتنا، أو تضخيم ذوات آخرين. إن هذا الإغراق التكنولوجي يجعل الناس يشعرون بالسوء نحو أنفسهم، ويحسون بحاجةٍ ماسّةٍ إلى أن يكونوا أكثر تميزًا وأكثر “راديكاليةٍ” حتى يحققوا وجودهم، ويصبحوا أشخاصًا مشهورين”.

يحثُّ المؤلف قراءه بضرورة معرفتهم لحدود إمكاناتهم، وتقبل تلك الحدود، وعدم محاولة القفز عليها، كما يحثُّهم على إدراك مخاوفهم، ونواقصهم، وكل ما هم غير واثقين منه. وينصحهم بقوةٍ أن يكفّوا عن التهرب والفرار من ذلك كله، والبدء الجاد في مواجهة الحقائق الحياتية المُوجِعة، حتى يصبحوا قادرين على العثور على ما يبحثون عنه من جرأةٍ ومثابرةٍ وصدقٍ ومسؤوليةٍ وتسامحٍ وحبٍ للمعرفة.

وفي إطار رفض المؤلف المبرَّر لبعض دعايات، وأباطيل دعاوى المسترزقين عبر كتب ودورات التطوير الذاتي، يؤكد القول بأنَّه ليس بوسع كلِّ شخصٍ أن يكون متميزًا متفوقًا. لأنَّ -والفكرة للمؤلف- في كل مجتمعٍ ناجحين وفاشلين؛ وقسمٌ من هذا الواقع القدري قد لا يكون عادلًا، لكنَّه ليس نتيجة غلطة الشخص نفسه.

يرى مصنِّف الكتاب أنَّ المال شيءٌ حسنٌ، لكن اهتمام الفرد بما يفعله بحياته أحسن بكثيرٍ من المال.

يولي المؤلف (المتعة) اهتمامًا بالغًا؛ باعتبارها قيمةً نشدها، وما زال ينشدها الإنسان منذ فجر التاريخ، وإلى أن تقوم الساعة، ويقول في هذا الصدد: “المتعة قيمةٌ شديدةٌ السوء إذا وضعنا أولويات حياتنا وفقاً لها، فهي إلهٌ زائفٌ، ومن يركز طاقته على المُتع السطحية ينتهي به الأمر إلى أن يصير أكثر قلقًا، وأقل استقرارًا، وأكثر اكتئابًا، المتعة أكثر أشكال الرضا سطحيَّةً، وهي ليست سبب للسعادة، بل مجرد أثرٌ من آثارها”.

للحديث عن هذا الكتاب القيم بقيةٌ.. أستكملها معكم أعزائي القراء في حلقة الأسبوع القادم -إن شاء الله تعالى-، وأَذِنَ لنا بالبقاء واللقاء، وأستهلها بحديثٍ مفصلٍ للكاتب عن “القيم”، وأتطرق فيها لمسألةٍ أثارت جدلًا تتعلق بترجمة عنوان الكتاب إلى العربية، وغير ذلك. فإلى ذلك الحين، وكل حين تدومون بخيرٍ وعافيةٍ، وتوفيقٍ ووعيٍ يليق بذاوئقكم الكريمة.

☘️??☘️??☘️??☘️??☘️??

بقلم الأديب والباحث والمترجم/ خلف بن سرحان القرشي

#خلف_سرحان_القرشي 

السعودية – الطائف – ص. ب 2503  الرمز البريدي 21944

ايميل:  [email protected]

تويتر qkhalaf@

مقالات ذات صلة

‫87 تعليقات

  1. كتاب مفيد وقيم يزخر بالعديد من المعلومات والمعطيات التي تهم جوانب متعددة من حياة الإنسان.. أشكرك الشكر الجزيل

  2. عنوان الكتاب بحد ذاته يستهوي القاري وترجمتك ايها الكاتب واختيارك فيه الفائده الجمه مبدع اخي خلف وفقك الله وننتظر لمسات قلمك المبدع

  3. يقول المؤلف: “تأتي السعادة من حلِّ المشاكل، وليس من عدم وجودها في حياتنا، ولكن كثيرًا من الناس يميلون إلى إنكار مشاكلهم، وإلقاء اللوم على الآخرين، لأنَّ ذلك مهربٌ سهلٌ يبعث على الراحة النفسية”.
    عمق التجربة ودقة الوصف وروعة البيان تتجلى هنا.

  4. على الرغم من اختلاف الاحاديث عن مايحويه هذا الكتاب …الا انني وبلامجاملة وجدت فيما سطرتم اديبنا الكريم ضالتي فيما يحويه من استيضاحات وتجارب سيكون منها الفائدة باذن الله ….نحن في الانتظار ابا سعد انبحر سويا بين دفتي الغلاف …مؤملين الفائدة

  5. موضوع في غاية الروعة، خاصة أنه يتناول كتابًا لا يقل في قيمته عن كثير كتب نحتاجها في الوضع الراهن.

  6. “المتعة قيمةٌ شديدةٌ السوء إذا وضعنا أولويات حياتنا وفقاً لها، فهي إلهٌ زائفٌ، ومن يركز طاقته على المُتع السطحية ينتهي به الأمر إلى أن يصير أكثر قلقًا، وأقل استقرارًا، وأكثر اكتئابًا، المتعة أكثر أشكال الرضا سطحيَّةً، وهي ليست سبب للسعادة، بل مجرد أثرٌ من آثارها”

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88