إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

أخيرًا عثرت على بعض قصائدي!.

لا يدرك القيمة العاطفية للقصيدة إلا شاعرها، وإن أظهر النقاد له عيوبها، وهذا الإدراك سمّهِ ما شئت، غشاوة جهل، أو ركامة غرور، أو جسارة ثقة؛ لأن للقصيدة في خاطر الشاعر معنى آخر قد لا يقع في نظر النقاد، فللشاعر وجدانه الخاص به تجاه قصيدته، فهي من سلّمت صحيفتها إليه إثر موقفٍ اشتعل في نفسه جُملاً وألفاظاً ومعنًى وخيالاً، والشاعر يرى قصائده جواهر تتفاوت منزلتها باختلاف قيمتها عنده، فلذا نجد أحمد شوقي – مثلاً – يرى أنّ أعظم قصائده هي النونية الآمونية التي مطلعها:

درجتْ على الكنز القرون

وأتت على الدَّنَ السنون

فيما يرى حافظ إبراهيم أن أعظم قصيدة نظمها شوقي هي البائية الكازنارفونية، التي مطلعها:

في الموت ما أعيا وفي أسبابهِ

كـلّ امـرئٍ رهــنٌ بطيّ كــتابـهِ

ولهاتين القصيدتين الرائعتين حديث شيّق ومناسبتان متغايرتان، ذكرهما الأديب الفذّ زكي مبارك، وليس هنا موضع استطراد ما ذكر.

ولنتخيّل ولو لأسطر قليلة، كيف لو فقد شاعر جوهرة من قصائده، ثم بحث عنها زمنًا طويلًا تجاوز الثلاثين عامًا فلم يجدها، حتى دبّ اليأس في حنايا صدره، وكسر العجزُ القلمَ، فيبُسَ حبره في أن يخطّ مثلها في وتر سطره، مهما استنزف الذكريات في استذكار معناها ومبناها، حتى إذا ما غلب ظنّه اليقين، وصمت عن قلبه الحنين، وجدها فجأة بين أرفف مكتبته العامرة بداووين الشعراء، وبين قصائد أميزهم من العظماء، مطوية بين صفحات كتبه، ولولاه لأكلها الزمن، ولأكلتها أَرَضَة النقد فيما لو أظهرها لساحته!. ، وكان منطق حال قوله كقولي:

تضوّع المسك من أحبار مقلمتي

وغرّد الشعر في أوراق أفكاري

ومـا اكـتـرثــتُ لإزراءٍ وتـزكـيــةٍ 

ما دامَ حرفيَ أوتاراً لسُـمّـاري

وحالة الشاعر هذه أشبه عندي بحال من افتقد صديقًا كريمًا كان ملازمًا له أيام صباه وفتوته، أو أستاذًا جامعيًّا مخلصًا أيام تخصّصه ودراسته، أو معلمًا نبيلاً فاضلًا أيام مسؤوليته وتدريسه، فلا شكّ أنّ الزمن قد أخذ دورته، فأوجب الرحيل دون أستئذان، لما يفرضه واقع الحياة، إذ شرع كلّ في فلكه يسبح، وإلى طموحه يسعى ويجمح، فكان الفقد، ووقع البعد، ورغم قيود الزمن التي أوجبت هذا المصير، إلّا أنّ أمثال هؤلاء في الفكر ذكراهم، وفي الروح أيامهم، وفي القلب ودادهم، فهم من لحظات بل من أعوام عمري، يمرّ طيف فترتهم بين أحاديثي، أو خلال مواقفي، لأنّ قيمتهم كالذهب الخالص الذي لا ينطفئ بريقه، فلا تغيب شمسهم، وإن اكفهر الليل بسواده، والتفّ الفضاء بغمامه، فأخفى عن العين النجوم.

قال المتنبي:

دونَ الحلاوة في الزمانِ مرارةٌ

لا تُـخـتطى إِلا عـلى أهـوالهِ

ومع هذا ظلّت رياح الشوق تثير سفينة السؤال والبحث عنهم فلربما وصلتْ للساحل المفقود، وإن شقّ على ملّاحها العناء والمجهود، لأنّ وابل سحائب تلك المراحل المختلفة لامس جوف الفؤاد محبةً، فلم تنضب يومًا ما، ويمضي العقد تلو العقد، وما زلت ترقب لسفينتك النجاح، حتى أرسيتها في بحر الثورة التقنية، لتدقّق الاتصال عبر مواقعه الاجتماعية، علّك تجد أثرًا لهم، وربما انتخبت فاخترت شيخ الشنكبوتية* (چوچل) لهذه المهمة لكن دون جدوى تُذكر، وتدور الأيام وما زال للذكرى حنين أو تكاد تخفت لولا بصيص الأمل الكامن في أغوار النفس، للتجاوز ذلك بلعلّ وعسى، وفي الروح يتردد الصدى.

بقول الشاعر:

وَقَد يَجمَعُ اللَهُ الشَتيتَينِ بَعدَما 

يَـظُنّانِ كُـلَّ الظَـنِّ أَن لا تَـلاقِـيا

وصدفة!، وما أجمل الصدف!!، تجد من تبحث عنه يبحث عنك عبر شيخٍ أقل شأنًا من شيخك الذي انتخبته، لتكون فرحة اللقاء، وحديث الالتقاء، ولو تواعدنا لاختلافنا في الميعاد، ولكن ليقضي ﷲ أمرًا كان مفعولاً، فلا تهلك الذكرى ولتحيا بالدقيق منها والجليل!. ، وليتأكّد لك أنّ الأحبّة كالقصائد عند شاعرها، لها طبعها العاطفي الخاص، لأنّك ستجد فيها قصيدة صباك، وقصيدة دراستك، وقصيدة عملك، بنغم آخر أبهى من لحن ذاكرتك التي لو استجمعت قواها لم تفلح في إدراك معانٍ أخرى أروع لسابق عمرك، حيث تخفى تفاصيلها عنك لولا مصادفة أحبتك!. ليرتدّ الصدى فيتردّد بعزفٍ آخر أفخم للحسّ، وأسكن للنفس، حين ينشد قول الشاعر المصري عبداللطيف الصيرفي:

بُشرى بِها زَورَةٌ مـا كُنـتُ أَرقُبُها

قَضى بِها الحَظُّ يا فَوزي وَإِسعادي

فَحَـبَّذا ، لَـيلَةً بِالأُنــسِ زاهِـــرَةً 

وَحَبَّـذا، صُــدفَــةً مِن غَـيــرِ ميــعادِ

هذا ومن القصائد ما يحسن بك بل يجب عليك تمزيقها من مخيلتك أو رميها في تنّور النسيان، لأنّها لا تزيد عيشك إلا كدرًا، ولا حياتك إلا نكدًا، وودتَ أنّها لم تُكتب لك بين صفحات عمرك، لكنها تجربتك مع الدهر، لتنير لك الحكمة منها، فليس في القدر شرٌّ محضٌ!. فأقول:

وبعض الفقدِ تحيا فيه ذكرى 

وفي التـذكّارِ أحـيانـًا شـقــاءُ

فشكراً لك أيها المغترد (تويتر) إذ عثرتُ بين أغصان حساباتك الكثير من قصائدي البهيّة، منها ما تجاوزت الثلاثين فألفيت وفاءها لم يجفّ منذ أيام ابتدائية الخليل بن أحمد بالرياض، ومنها ما تجاوزت دون ذلك فأجلستني طالبًا من جديد بين صفوف الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، ومنها ما تجاوزت العشرين فعادت لنخفّف عنّا عناء التعليم، ولنفيد بعضنا بعضًا مهارة التدريس كما كنا بين أفياء قرية “النّخِيل” بالحناكية في منطقة المدينة المنوّرة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام.

ـ فاصلة منقوطة ؛

لا شيءَ في الدنيا أحبُّ لناظري

من منظرِ الخلانِ والأصــحابِ

وألــذُّ موسيــقا تســرُّ مســامعي

صوتُ البشيرِ بعودةِ الأحبابِ

الشاعر القروي (رشيد الخوري)

——————————————

الشنكبوتية* كلمة منحوتة من الشبكة العنكبوتية والتي تعني “الإنترنت”. 

——————————————
بقلم الأستاذ/ إبراهيم الوابل – أبو سليمان
‏ibrahim7370@
الاثنين – الموافق
١٤ – ١٠ – ١٤٤٠هـ
١٧ – ٦ – ٢٠١٩م

مقالات ذات صلة

‫22 تعليقات

  1. لا يدرك القيمة العاطفية للقصيدة إلا شاعرها ، وإن أظهر النقاد له عيوبها ، وهذا الإدراك سمّهِ ما شئت ، غشاوة جهل أو ركامة غرور أو جسارة ثقة

  2. لأن للقصيدة في خاطر الشاعر معنى آخر قد لا يقع في نظر النقاد ، فللشاعر وجدانه الخاص به تجاه قصيدته

  3. خلال مواقفي ، لأنّ قيمتهم كالذهب الخالص الذي لا ينطفئ بريقه ، فلا تغيب شمسهم ، وإن اكفهر الليل بسواده ، والتفّ الفضاء بغمامه ، فأخفى عن العين النجوم ، قال المتنبي :
    دونَ الحلاوة في الزمانِ مرارةٌ

  4. من القصائد ما يحسن بك بل يجب عليك تمزيقها من مخيلتك أو رميها في تنّور النسيان ، لأنّها لا تزيد عيشك إلا كدرًا

  5. وحالة الشاعر هذه أشبه عندي بحال من افتقد صديقاً كريمًا كان ملازماً له أيام صباه وفتوته.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88