إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

لَفْلَفةُ الفلسفة

قال ﷻ : ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ۗ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ۚ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا ) لأبليس ذرية فالآية صريحة ، وقد تتساءل أخي القارئ الكريم ومن قال غير هذا ؟! ، أقول : الفلسفة تقول غير ذلك حين يخرج علينا عبر الإعلام ووسائله من يتعالم العلم ويدّعيه ، قال الشاعر العباسي أبو نواس :
فَقُل لِمَن يَدَّعي في العِلمِ فَلسَفَةً
… حَفِظتَ شَيئاً وَغابَت عَنكَ أَشياءُ

ومع صراحة الآية ، وحقيقة هذا التفلسف ، تذكّرت نصاً طريفاً لطه حسين انتقد فيه الأديب الكبير المنفلوطي انتقاداً مُرّاً إذ قال : ( أيها الكاتب المجيد ، أسعد الله صباحك ، وأحسن مفداك ومراحك ، وقوّم المزورّ من شأنك ، والمعوجّ من لسانك ، وألهمك الصواب في الإعراب ، والإحسان في البيان ، فما أعلمك في كل ذلك إلّا دعيّاً ، بحثتُ عن معناك فلم أجدك إلّا غثّاً ، وعن لفظك فلم أجده إلّا رثّاً ، وعن أسلوبك فلم ألفه إلّا مبتذلاً ، وعن صيتك فلم أجده إلّا منتحلاً ، وعن مُقرظيك فإذا هم بين ظالم ومظلوم ولائم وملوم ، فسألت الله أن يثأر منك العرب ، وقد وترتهم في لغتهم ، وللأدباء وقد وترتهم في صناعتهم ) وبعد ذلك بأربعة عقود سُئل عن سبب هذه الهجوم المستنكر على المنفلوطي فأجاب وهو يبتسم : ( كنت شاباً يريد الشهرة على حساب كاتب كبير معروف ).

ففي زحمة قنوات الفضاء تتبدّل المعايير ، وتُسفّه القيم ، ويُكذّب التأريخ ، ويعتذر الحقّ ، ويُسمع للباطل ، ويقهقه الكذب ، ويحوقل الصدق ، وتُغيّب الحجّة ، وتصحو الغفلة  ، وتغفو الصحوة ، وتعمى الأبصار ، وتُتّهم البصائر ، وبداية الحكاية من حكاية البداية وهي ” خالف تُعرف أو تُذكر ، وللفَرِح بك تُشكر ” ، فتُستدرّ الشهرة بتزييف نهار الحقيقة في الظلماء ، وتنميق ليل الخطيئة في الأضواء ، ليأخذ بها الجاهل ، ويفرح بها السافل ، ويأسف منها العاقل ، فتستدير الألباب وتُدار إلى من لم يأخذ بزاد من العلم إلا كما يُؤخذ منه شرنقة حديثه السطحي ، قال المحدّث الحافظ ابن حجر في لسان الميزان ج3/28 عن الحسن بن أحمد المقري الحنبلي إنّه قد قال : ” ليت الخطيب ذكرني في التاريخ ولو في الكذّابين “. يقصد الخطيب البغدادي.

فالشهرة بمبدأ الزيغ مرض ، وعلى حساب النور رمض ، لا تزيّنها فلسفة منطق اختطّ بالشيب ، ولا فخامة لفظ ارتجّ بالأذن ، ولا عبارات تتناثر على مسلك الفصاحة ، ولا تراكيب تتمايز في منهج الذلاقة ، كما لا يعيد خفوت نجمها زخرفة وادّعاء ، ولا يمدّ سكون ظلّها غُمرة السفهاء ، لأنّ العقول لها احترامها ، ياسيدي الفخامة في اللفظ ليست من العلم في شيء ما لم تجعل منه حجّة ، تُصغي لها القلوب قبل الأسماع فتقتنع ، فلا تفرض على البشر قناعتك إلّا بدليل وليس كلّ دليل ، فالأدلة كثيرة ، هات أقواها كي نسلّم لقناعتك ، فإن لم ؛ لا ترمِ آراءك جِزافاً وقد شيّعها تبيانٌ أجوفٌ خالٍ من صلابة بنيان برهان ، فلذا أقول :
ألم ترَ أنّ الصبح بالنور يهـتدي
…. وأنّ نجوم البرج يُهدى بها الليلُ
فلا تتركن في القول أبلغ حـجّةٍ
…. فخيرُ مقال الـمـرء ينصفـهُ العقلُ

الشهرة خلف جهلٍ بلاهة ، ودون فهمٍ فهاهة ، ولإهانة الذات حماقة ، ولنصرة النفس دون حقّ بلادة ، فحين نلطّخ تاريخنا بأبشع التهمّ المصطبغة بالافتراء ، ونقلّد خصومنا في صفحاتٍ مدبوغة بالأهواء ، دون فحصٍ وتصفّح ، وتمحيصٍ وتخصّص ، فنحن نردّد صدى رغائهم دون اعتبارٍ لمنهجية البحث ، بل ونشوّه الحقيقة باسمنا ، وبعبثٍ يكاد يكون حقّاً علينا لغيرنا ، لأنّ العابث من بني جلدتنا إمّا لجهلٍ فيه أو لسَفَلٍ منه ، لكن الواقع المعاصر شاهدناه ، ودرسنا التأريخ وعرفناه ، وقلّبنا صفحاته وفهمناه ، وشهد به لنا الأعداء المنصفون فأوردناه ، تقول المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه في كتابها شمس العرب تسطع على الغرب : ( لا إكراه في الدين : تلك هي كلمة القرآن الملزمة ، فلم يكن الهدف أو المغزى للفتوحات العربية نشر الدين الإسلامي ، وإنّما بسط سلطان الله في أرضه ، فكان للنصراني أن يظلّ نصرانيًا ، ولليهودي أن يظلّ يهوديًا كما كانوا من قبل ، ولم يمنعهم أحدٌ أن يؤدّوا شعائر دينهم ، ولم يكن أحد لِيُنزِل أذى أو ضررًا بأحبارهم أو قساوستهم ومراجعهم ، وبِيَعِهم وصوامعهم وكنائسهم ) ، ويقول المؤرخ الفرنسي دريبار نقلاً عن كتاب كيف صنع الإسلام العالم : ( نحن الأوروبيون مدينون للعرب بالحصول على أسباب الرفاه في حياتنا العامة ، فالمسلمون علّمونا كيف نحافظ على نظافة أجسادنا ، إنّهم كانوا عكس الأوروبيين الذين لا يغيّرون ثيابهم إلّا بعد أن تتّسخ وتفوح منها روائح كريهة . فقد بدأنا نقلدهم في خلع ثيابنا وغسلها ، كان المسلمون يلبسون الملابس النظيفة الزاهية حتى أنّ بعضهم كان يزيّنها بالأحجار الكريمة كالزمرد والياقوت والمرجان ، وعُرف عن قرطبة أنها كانت تزخر بحماماتها الثلاثمائة ، في حين كانت كنائس أوروبا تنظر إلى الاستحمام كأداة كفر وخطيئة !!. ).

ونهاية الحكاية أنّ لإبليس ذريّة ، فلا يغرّنك من امرئ مقالته ، حتى وإن تشدّق بالبيان ، وتخلّل الجُمل باللسان ، إلّا أن يأتيكَ ببرهان ، فكم على المنابر من خطيبٍ متفيقهٍ ، ظلّ القبر أبلغ منه حُجَةً بصمته !.

– فاصلة منقوطة ؛

العلم ليس وقفاً على المؤلّفين والمدرّسين , وإنّما هو قرع الحجّة بالحجّة ومدافعة الرأي بالرأي. – ألفونس كار ، كاتب وناقد فرنسي.

——————————————
إبراهيم الوابل – أبو سليمان
‏ibrahim7370@
الاثنين – الموافق
١٥ – ٩ – ١٤٤٠هـ
٢٠ – ٥ – ٢٠١٩م

مقالات ذات صلة

‫24 تعليقات

  1. ( كنت شاباً يريد الشهرة على حساب كاتب كبير معروف ). الله مستعان ما أكثرهم الآن
    مقال في الصميم وهو نهاية كل الحكايات !

  2. يقول المؤرخ الفرنسي دريبار نقلاً عن كتاب كيف صنع الإسلام العالم : ( نحن الأوروبيون مدينون للعرب بالحصول على أسباب الرفاه في حياتنا العامة

  3. لا يغرّنك من امرئ مقالته ، حتى وإن تشدّق بالبيان ، وتخلّل الجُمل باللسان ، إلّا أن يأتيكَ ببرهان ، فكم على المنابر من خطيبٍ متفيقهٍ ، ظلّ القبر أبلغ منه حُجَةً بصمته

  4. الشهرة خلف جهلٍ بلاهة ، ودون فهمٍ فهاهة ، ولنصرة النفس حماقة ، فحين نلطّخ تاريخنا بأبشع التهمّ المصطبغة بالافتراء

  5. فالمسلمون علّمونا كيف نحافظ على نظافة أجسادنا ، إنّهم كانوا عكس الأوروبيين الذين لا يغيّرون ثيابهم إلّا بعد أن تتّسخ وتفوح منها روائح كريهة

  6. ولا تراكيب تتمايز في منهج الذلاقة ، كما لا يعيد خفوت نجمها زخرفة وادّعاء ، ولا يمدّ سكون ظلّها غُمرة السفهاء

  7. الشهرة ليست دليل النجاح دائما
    ولكن النجاح من ثماره الشهرة

    فكم من فاجر فاسق مشهور
    وكم من صالح عابد مشهور
    وكم من تافه مشهور
    وكم من مغني مشهور
    وكم من عالم مشهور
    وكم وكم
    والحديث يطول …………

  8. لغة فصيحة، وكلام موزون، وعبارات دالة ومعبرة، وتناول جيد للموضوع، هذا ما عهدناه على أبو سليمان.. وصدقتم بالقول “فكم على المنابر من خطيبٍ متفيقهٍ ، ظلّ القبر أبلغ منه حُجَةً بصمته !.” بوركتم

  9. الفلسفة اهواء عقول يغيب عنها الكثير من العلم يخضع لعقلة فقط ويرى انه هو الصواب لا غيره

  10. المشكلة بنشوف الناس اللي بتظهر على وسائل الاعلام كلامهم لا يتماشى الا مع حياته هو اللي شايفة وعايز يعيشها وعايز يخلي الناس تقتنع ان دة الصح واللي ما يتبع هذا يكون غير متحضر

  11. مقال جميل جدا يناقش مجموعة من الجوانب المعاصره الهامه الموجودة بين الناس ولها دور في تغير حياتهم وافكارهم

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88