إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

رمضان في السودان

لا أظن أحدًا ينسى الأماكن التي صام فيها، وهل كان الفصل صيفًا أم شتاءً. وبماذا أفطر ومع من أفطر.

وهو قد ينسى بقية أيام العام باستثناء أيام قليلة تباغته فيها الحياة، كما تفعل بإحدى مفاجآتها السارة أو المحزنة.

الأيام العادية تمضي تباعًا طوال العام، لا يكاد الإنسان يحس بمرورها، كأن الزمن نهر سرمدي.

ولكن يوم الصائم –وهذه عندي من حكم الصوم- يتفلت قطرة قطرة، الدقائق تمر كأنك تسمع وقع خطاها. الصائم يحس بالزمن لأول مرة خلال العام أنه (كم) يمكن أن يوزن بميزان ويقاس بمقياس، يختلط جوعه وظمأه -خاصة إذا كان الوقت صيفًا حارًّا – مع كل دقيقة تمر يكونان عجينة من المكابدة والسعادة.

فإذا انقضى اليوم، يحس الصائم أنه قد قطع شوطًا مهمًّا في رحلة حياته. وإذا انقضى الشهر بطوله يشعر حقًّا أنه يودع ضيفًا عزيزًا طيب الصحبة، ولكنه عسير المراس.

أنا أذكر بوضوح رمضانات صمتها عند أهلي في صباي الباكر، أول عهدي بالصيام. كنا قبيلة أفرادها كلهم أحياء (الجدود، والآباء، والأعمام، والأخوال، وأبناء العمومة، وأبناء الأخوال)، لم يكن الدهر قد بدأ بعد يقضم من جسمها كما يقضم الفأر من كسرة الخبز.

كـانت دورنا تقوم على هيئة مربع، وفي الوسط باحة واسعة فيها رقعة رملية، كنا نجتمع للإفطار في تلك الرقعة، نتولى نحن الصبية أمر تنظيفها وفرش الحصر عليها، وقبيل المغيب نجئ بسفر الطعام من البيوت، ونجلس مع كبارنا ننتظر تلك اللحظة الرائعة حين يؤذن مؤذن البلدة –غير بعيد منا- (الله أكبر) معلنًا نهاية اليوم.

وكنت في تلك الأيام، قبل أن يقسو القلب ويتبلد الشعور، أحس أن ذلك النداء موجه لي وحدي، كأنه يبلغني تحية من آفاق عليا، لقد انتصرت على نفسي.

أذكر جيداً طعم التمر الرطب، وهو أول ما نفطر به، حين يوافق رمضان موسم طلوع الرطب. وكانت لنا نخلات نميزها ونعتني بها، لها ثمر شديد الحلاوة، تخرجه باكرًا، وكانوا لا يبيعون ثمارها، ولكنهم يدخرونه لمثل تلك المواسم، وقد زرعت أصلاً من أجل ذلك.

وأذكر مذاق الماء الذي يصفى ويبرد في الأزيار أو في القِرَب، خاصة ماء القِرَب الذي يخالطه شيء من طعم الجلد المدبوغ،
وشراب (الابري) وهو يصنع من خبز يكون رقيقًا جدًّا -أرق من الورق- تضاف إليه توابل، وينقع في الماء ويحلى بالسكر.

ومذاق (الحلو مر) وهو أيضًا من عجين مخلوط بتوابل خاصة، وحين ينقع في الماء يكون ذا لون أحمر داكن الحمرة.

هذان الشرابان لا يوجدان إلا في السـودان، وهما مرتبطان برمضان، ولهما رائحة عبقة فواحة. تلك وروائح أخرى، كان خيالي الصبي يصورها في ذلك الزمان، كأنها تأتي من المصدر الغامض نفسه الذي يأتي منه شهر رمضان.

كان طعم الزمان في تلك الأيام حلوًا مخلوطًا بمرارة لها مذاق العسل.

لم نكن نأكل كثيراً في إفطارنا. لا توجد لحوم أو أشياء مطبوخة، كل واحد يتعشى بعد ذلك في داره على هواه، وغالبًا ما ينتظر السحور من دون عشاء.

نصلي ونفطر على مهل، ونقوم نحن الصبية فنحضر الشاي والقهوة (الجبنة)، وكان يُسمح لنا بشرب القهوة فقط في شهر رمضان، فالقهوة عدا ذلك للكبار وحدهم، ولم يكن ذلك نوعًا من الحظر، ولكن من قبيل الاقتصاد في النفقة، فقد كان البن أغلى من الشاي.

يساوونا بأنفسهم لأننا نصوم مثلهم، ثم يأخذون في الحديث ونحن نسمع ولا نتكلم، ويا له من حديث، كان رمضان يُخرج منهم كنوزًا دفينة، كنت أستمع إليهم وكأني أشرب ماء القرب البارد وآكل التمر الرطب.

لا أعلم كم كان (معدل الدخل) عندنا تلك الأيام، ولم أكن أعلم شيئًا عن الحالة الاقتصادية في القطر، ولم يكن يهمني من الذي يحكم البلد، كنت أعلم أن الانجليز موجودون في الخرطوم، وأحيانًا يمر بنا واحد منهم، كما يمر طائر غريب في السماء، لكننا كنا بمعزل عن كل ذلك، نحس بالعزة والمنعة والطمأنينة والثراء، وكنـت أعلم أن ذلك الإحساس حق؛ من الطريقة التي يمشي بها آبائي وأجدادي.

لا يمشون مختالين، ولكنهم يمشون على وجه الأرض ثابتي الخطى مرفوعي الرؤوس، لا يخامرهم شك أن الأرض أرضهم والزمان زمانهم.

ولعـل الإنجليز خرجوا آخر الأمر لأنهم ضاقـوا بإحساس الحرية ذاك لدى السودانيين، كأنهم لم يفهموا، أو رفضوا أن يفهموا أنهم أمة مهزومة مستعمرة.

الإحساس بالمذلة والهوان حدث لهم بعد ذلك، على أيدي بعض أبنائهم الذين انتزعوا الحكم من الذين ورثوه عن الإنجليز، ومنهم من كان صبيًّا مثلي في ذلك الزمان الأغـر، وجلس على بقعة رمل كما جلست، مع آبائه وأجداده في إفطار شهر رمضان.

كنا حقاً سواسية كأسـنان المشط، ولا بد أنه ذاق المذاقات نفسها، وشم الروائح نفسها، واستمع مثلي إلى أحاديث آبائه وأجداده، حديثًا مليئًا بالمحبة والحكمة والطمأنينة.

فماذا أصابنا بعد ذلك، أم ماذا أصاب الزمان؟

وتصوموا وتفطروا على خير.

بقلم الأديب السوداني/ الطيب صالح -طيب الله ثراه-

مقالات ذات صلة

‫38 تعليقات

  1. لا أظن أحدًا ينسى الأماكن التي صام فيها، وهل كان الفصل صيفًا أم شتاءً. وبماذا أفطر ومع من أفطر.

  2. أذكر جيداً طعم التمر الرطب، وهو أول ما نفطر به، حين يوافق رمضان موسم طلوع الرطب

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88