إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

ضريبة الإبداع

وقف الشاعر العباسي أبو تمام أمام الخليفة المعتصم مادحاً أياه بقصيدة منها هذا البيت :

إقدام عمروٍ في سماحة حاتمٍ

   في حلم أحنفَ في ذكاء إياسِ

قال له الكندي الفيلسوف وكان حاضراً : الأمير فوق ما وصفت ، فأطرق قليلاً ثم رفع رأسه وأنشد :

لا تنكـــروا ضربي له من دونهُ

  مثلاً شروداً في الندى والباسِ

فالله قـــد ضــرب الأقـلّ لنورهِ

   مثـــلاً من الـمشكاة والنبراسِ

قصد بذلك قول الله ﷻ : ( الله نور السموات والأرض ) فعجب الحاضرون من ارتجال فطنته ، وسريع بديهته ، وحجّة ردّه الخاطر ، وعميق كدّه الحاضر ، وقد قيل : إنّ الكندي لما خرج أبو تمام قال : هذا الفتى قليل العمر لأنه ينحت من قلبه ، وسيموت قريباً ، فمن هذا القصة وأمثالها نرى كيف أنّ الإبداع ألجم من انتقد للإسقاط ، وهجم فجأةً للالتقاط.

ولغة الإبداع لا يدرك غورها حاسد ، وقد نلتمس له العذر تجاوزاً ، إذ إنّه أصمّ الأذنين ، لا يسمع لنفسه كلمة سوى الأنا ، وهذه اللّفظة الصغيرة المبنى المختالة المعنى ، أخرجت إبليس من خلود وأدخلته في خلود ، ( أنا خيرٌ منه خلقتني من نارٍ وخلقتهُ من طين ) … ويحه ، وما أقبحه من عذر ، وما أدراه أنّ النار أعظم خلقاً من الطين .. !. ، إنًّها ( الأنا ) حين تُلغي لحظة التأمّل ، ونظرة التروّي ، ورنوة التريّث ، يقول الكاتب الروماني إميل سيوران : ” توجد كآبتان ؛ الأولى يعالجها الدواء ، والثانية تلازمنا : إنها الأنا في مواجهة ذاتها إلى الأبد “.

والمبدع من أهدافه الارتقاء بإبداعه ؛ ليُفيد ويستفيد منه مجتمعه ، فالتحطيم هي أولى الخطوات التي يسعى إليها المنتفخ ببُردة ( الأنا ) ليهلك حرث البذرة ، فالتجاهل والتعامي والتظاهر والتغابي عن معرفة قيمة المبدع  خطوة خفية لإيقاف نمو هذه البذرة الصالحة التي تطمح أن تكون شجرةً مثمرةً لمجتمعها !. ، فحريّ بمن وقف أمام نماذج تحاول سلوك هذا الطريق أن يصطفّ بجانبها حتى وإن كانت محاولتها تافهة !. ، وأخصّ بهذا الكلمات المعلّمين الذين تظهر بين حينٍ وآخر من عمرهم التعليمي بوادر من هذا النمو بين أبنائهم الطلاب !. قال الشاعر المصري عامر محمد بحيري :

إِن الــمعلم في الـبلادِ أعـزَّ من

     يعـطي الجـزيلَ ويبذلُ المجهودا

يعطي الحِمى من نفسِه لا مالهِ

      ويصــوغُ جــيلاً للبلادِ جــديدا

المــحلُ يـتركــهُ المــعلمُ مُخْصِباً

     والعدمُ في يـــده يَحُــلُّ وجـــودا

أذكر أنّ أحد زملائي أتاه طالبٌ تقطرُ معانيه خيالاً وجودةً في الدلالة عند كتابته لموضوعٍ ما ، لكن كان ينقصه الكثير من الأدوات والأساليب التي يسعف بها رسالته ، حتى تصل نقيّة اللغة عذبة الألفاظ بهيّة الأسلوب ، وإن كان غزير المعنى واسع الخيال ، فكان زميلي له نبراساً يكفّ عنه عوائق الظلماء في حناديس السطور الموغلة بالعتمة ، فأصبح الطالب بعد حين إشعاعاً يبهر العقول ويروي القلوب ، وبالمناسبة الإبداع لا يقف عند الكتابة بل هناك الإنشاد والاختراع والاكتشاف وتقديم البرامج المفيدة ومن ذلك كذلك الإبداع التقنيّ فهو لغة العصر الجديد وغيرها الكثير من جوانب المعرفة . وقال الشاعر عامر محمد بحيري :

إِن الجهالةَ ظلمةٌ تغشى الحِمى

     وتحــيلُ أحـــرارَ الرجالِ عـبيدا

العــلمُ نـــورُ اللّه في أكــــوانـه

     جعلَ الــمعلمَ بحـــرَه الـمورودا

وحينما يُثبت المبدع إبداعه مُديراً ظهر تغافله لمن تأذّى منه ، تطفح ملامح الخطوة الثانية لكسر مجاديفه ! ، وهي في حقيقتها أجرأ محاولةً من الأولى مع مبدعٍ واثق الخطوة يمشي ملكاً !. ، إذ تلوح بإظهار المثالب والتعليق عليها تحت بند النقد البنّاء وهي في حقيقتها معول هدمٍ خصوصاً إذا ثبت أنّ النقد في وادٍ وصاحبه في وادٍ آخر ، فمن تحدّث في غير فنّه أتى بالمضحكات والعجائب ، هنا يجب أن يأتي من المبدع ما يُظهر ضحالة البِناء الذي يقوم عليه من يزعم النقد ، وذلك بالردّ مباشرةً مع الحجّة دون تسفيه ، وهو ما سيبرز حقيقة منبت هذا النقد للورى دون مكاشفة ، وهو في هذا لا ينتظر الثناء ولا يهفو إليه ، لكنه بالتأكيد ينتظر الإنصاف الذي يرشده أو يشجّعه إلى المضي قُدماً فيصقل من الإنصاف إبداعه. يقول المبدع السعودي أحمد الشقيري : ” الإبداع هو أن يخرج الإنسان من وحل الفشل إلى إنسان يُضرب به المثل “.

ومن وقف على مواقع التواصل الاجتماعي أدرك حقيقة هذه السطور ، فكثير من المبدعين قد يتوقّف لما يرى من سلبيات وتجاهل وتضخيم الأخطاء لمجرد أنّه صدر منه وليس من فلان المشهور المعروف الذي لو غمز لوحة المفاتيح مغرداً بنقطة ، لطارت بالتدوير حتى الألوف ، رغم أنّك تجد من سلكوا طريق التجربة الإبداعية في المغترد ( تويتر ) لديهم من التغاريد ما تكون جذّابة ذات فكرةٍ بهيّة عميقة المعاني تحمل من الإيحاء وحلّ لمشكلة ما ، بأوجز عبارة ، وأوضح أمارة ، وأصدق إشارة ، ومع ذلك تجد الردّ ؛ باهتاً – لا محفّزاً – كأن يناقش عن خطأٍ إملائي ، متناسياً فحوى التغريدة وسموّ هدفها ! ، ولا يعني هذا الدعوة إلى عدم الاهتمام بالإملاء – معاذ الله – ولكن لكلّ مقامٍ مقال ، وأجمل الإبداع أن تخفي اسمك عن الناس ، فترمز لإبداعك بما يناسب المجال الذي تتقنه ، فالبعض ينظر إلى اللقب مهملاً المضمون ، لكن ما يُعيّب هذه الرأي أن تُسلب الحقوق ويُغيّب إبداعك العقوق ، ومع هذا يبقى إخفاء الاسم أقرب إلى النقد الهادف البنّاء فلا موطئ لمداراة ومجاملة أو امتهان ومجاهلة. فأقول :

ربّ خفاءٍ أشاع في الناس ذكراً

     وظهــورٍ أبقـى لـديك الحــقـوقــا

وعوداً على بدء أتساءل هل كان لإبداع أبي تمام ضربية فمهّدت العبقرية لعمره قبره ، أقول : نعم وقد صدق الكندي الفيلسوف في قوله إذ لم يدم الشاعر طويلاً ، فكان الحتف من ذاته دون مؤثر خارجي ، وهكذا هم عباقرة العرب في عصرنا الحديث ، فكم من عبقري اغتالته يد الغدر ! ، فاقرأ إن شئت عن العالم اللبناني أديسون العرب وعن العالم النووي المصري يحيى المشد وعن عالم الفيزياء المصري أنشتاين العرب وغيرهم الكثير فقد كان للتأثير الخارجي سبب في ذلك خلافاً لحال أبي تمام ، لنعلم أنّ الإبداع له ضربية أدناها التسفيه وأعلاها الموت !. قال الشاعر العباسي أبو العتاهية :

ما كلّ ما يتمنى المرء يدركهُ

  ربّ امـرئٍ حـتفهُ فـيـما تمـناهُ

فالصبر الصبر أيّها المبدعون أو من سلكوا طريق الإبداع على مثل هؤلاء ، فأنتم تسيرون في الطريق الصحيح ما دمتم لا تلتفتون إلّا إلى الإيجابيات ، وتقبّلتم النقد الهادف بصدرٍ رحب ، وقلب محبٍّ ،  وعمل يحدوه الأمل ، وإخلاص يستحثه العمل ، وتذكّروا أنّ كثيراً من المتعلّمين العاملين أبرزهم من يحمل باطن الحسد عليهم ، فكانوا عظماء في مجالهم ، كما أنّ الكثير من المتعالمين المتعالين أخفاهم الحسد نفسه فلم تذكرهم سطور التأريخ إلّا بالسوء !. فأقول :

تقدّم وجازِ النفس بالصبر راسماً

     طموحاً شموخاً ، لا تسابقه الخيلُ

فلا بد أن تلقى مع السير عائــقاً

    ولولا الأذى في الخطو ما لُبس النعلُ

 فاصلة منقوطة ؛

وما النقد إلّا ما استقام على الهدى

      وكان بصـير العلمِ في الأخذِ والردِّ

عـــليُّ بِــنــاءٍ ، إن أشــــارَ بــرأيــهِ

… رفيعٌ ويسمو بالنصيحة في القصدِ

فكم ناقدٍ أبـــدى التعــالم مُعــجَباً

  وقد جهل الـمعنى من الجِدِّ والجَدِّ

فسرّ أيّها الميمون في الدرب مبدعاً

… وغامر ، وواصل فالغنيمة في السردِ

و سرّ واثـقـــاً باللهِ ، إيّاك تلـــتـفت

… فإن تــلتــفــتْ ؛ ترمِ طموحكَ بالبعدِ

———————————

إبراهيم الوابل – أبو سليمان

ibrahim7370@

الاثنين – الموافق

3 – 8 – 1440هـ

8 – 4 – 2019م

مقالات ذات صلة

‫31 تعليقات

  1. كلام جميل لا تنكـــروا ضربي له من دونهُ

    مثلاً شروداً في الندى والباسِ

    فالله قـــد ضــرب الأقـلّ لنورهِ

    مثـــلاً من الـمشكاة والنبراسِ

  2. ومن وقف على مواقع التواصل الاجتماعي أدرك حقيقة هذه السطور ، فكثير من المبدعين قد يتوقّف لما يرى من سلبيات وتجاهل وتضخيم الأخطاء لمجرد أنّه صدر منه وليس من فلان

  3. وما النقد إلّا ما استقام على الهدى

    وكان بصـير العلمِ في الأخذِ والردِّ

    عـــليُّ بِــنــاءٍ ، إن أشــــارَ بــرأيــهِ

    … رفيعٌ ويسمو بالنصيحة في القصدِ

  4. حينما يُثبت المبدع إبداعه مُديراً ظهر تغافله لمن تأذّى منه ، تطفح ملامح الخطوة الثانية لكسر مجاديفه ! ، وهي في حقيقتها أجرأ محاولةً من الأولى مع مبدعٍ واثق الخطوة

  5. فسرّ أيّها الميمون في الدرب مبدعاً
    … وغامر ، وواصل فالغنيمة في السردِ
    و سرّ واثـقـــاً باللهِ ، إيّاك تلـــتـفت
    … فإن تــلتــفــتْ ؛ ترمِ طموحكَ بالبعدِ

    ونحن نقول سر وإلى الأمام وبالتوفيق مقال أكثر من رائع .

  6. التألق والإبداع في شتى الميادين والمجالات وحتى فعل الخير صحيح له ضريبة ودليلنا في ذلك الأنبياء والمرسلين عليهم السلام الذين أوذوا فقط لأنهم جاءوا لإنقاد البشرية من الشرك ومن ضلام الجاهلية.. تسلم

  7. لا تنكـــروا ضربي له من دونهُ

    مثلاً شروداً في الندى والباسِ

    فالله قـــد ضــرب الأقـلّ لنورهِ

    مثـــلاً من الـمشكاة والنبراسِ

  8. فالصبر الصبر أيّها المبدعون أو من سلكوا طريق الإبداع على مثل هؤلاء ، فأنتم تسيرون في الطريق الصحيح ما دمتم لا تلتفتون إلّا إلى الإيجابيات

  9. وتذكّروا أنّ كثيراً من المتعلّمين العاملين أبرزهم من يحمل باطن الحسد عليهم ، فكانوا عظماء في مجالهم ،

  10. طرح مفيد كم تعودنا منك استاذ ابراهيم

    تجبر أقلامنا على أن تشكرك…فقد انرت عقولنا

    بمعلومات قيمة ومفيدة

    بارك الله فيك…

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88