عوراء ولكنها فاتنة !
من منّا لا يحفظ بيتين مشهورين للشاعر الأموي جرير ، في ظنّي أنّ الصغير يحفظهما قبل الكبير ، والفهيم للشعر قبل المتذوّق ، والمعجب بالمعنى قبل الناقد ، ولا أبالغ إذا قلت : إنّ الجاهل يردّدههما لجمالهما قبل المنتشي لروعة بيانهما ، حتى الشيخ ( قوقل ) يدركهما بمجرد كتابة أول لفظتين منهما ، ولا شكّ أيّها القارئ الكريم أنّ هذين البيتين لا يخفيان عليك وهو قوله :
إنَّ العيـونَ الَّتي في طــرفها حَوَرٌ
قــتلــننا ثــمَّ لـم يُــحْــيينَ قــتــلانا
يصرَعْنَ ذا اللُّبِّ حتَّى لا حراك به
وهُــنَّ أضعــفُ خـلـقِ الله إنـسـانا
فلغة العيون الفاتنة بالغة التأثير ، قويّة التعبير ، تهزَّ القلب بلاغتها ، فسطوتها أفصح من خطاب ، ، تسحر حصون الألباب ، وفتكها أقهر من سيوف مسلولة ، وسهام مسمومة ، تأسر عقل المرء وهي السجينة بين المحاجر ، وتحيّر فكره وهي المتقلّبة بين الأجفان ، راكنة صامتة راصدة وهي المنطلقة في صيد الفريسة ، فكفى بها لغة تغني عن كلّ حديث ، أسبت الرجال عقولهم ، وألهبت الشعراء قلوبهم ، وأبكت الكتّاب أقلامهم ، قال الشاعر الأندلسي ابن زيدون:
والودُّ يظهرُ في العيون خفيُّهُ
إنّ الــوداد سـريـرةٌ لا تُـكــتَــمُ
بيد أنّه في هذا الزمن المتقلّب بأيامه ، الغريب بأطوره ، العجيب بأحلامه ، المشحون بصدره الواسع ، المشحوب بتلوّنه للواقع ، المتغيّر بمزاجه ، أو المتبدّل بامتزاجه ، المُردف للناس في تحوّله ، المسرف في اللهو بتوغّله ، أظهر منافساً آخر لفتنة بهاء وملاحة الحَوَر ، تلك هي الكرة المستديرة التي غطّت الفكر بالعَوَر ، قنصت المرأة قبل الرجل ، والفقير قبل الغني ، والعاقل قبل السفيه ، والمروءة قبل السماجة ، وأستثنى من ذلك الكثير الكثير !. فأقول :
ماذا تركت من الأحداث يا زمنُ
في كلّ عهدٍ لنا في سرّهِ عـجبُ
فتنة يقلّبها الهواء مع الهوى ، تتعارك لركلها السيقان مع الأقدام ، وتتناطح عليها الرؤوس مع الأكتاف ، لتقبع عالقة في خيوط من الشِباك ، فينتفض التصفيق ويتعالى الهُتاف ، والنتيجة صرعى تتمدّد ، وتصاريح تتوقّد ، وإعلامٌ يتعصّب ، ومواقع تتشنّج ، وجماهير تتقاذف ، وأخلاق تكاد تضمحلّ ، فهذا يزدري ذلك ، وذلك يُزري بهذا ، وفي الأخير نردّد الرياضة ذوق وأخلاق ، فأُفٍّ لرياضةٍ إذا كان هذا منطقها ، وأُفٍّ لأخلاقٍ في بيئةٍ كهذه مُنطلقها !. ، يقول الشاعر والصحفي المصري فاروق جويدة : ” أسوأ الأشياء يا سيدي أن نتحدث عن أخلاق لا نمارسها ، وفضائل لا نعرفها ، وأنتم تكلمتم كثيراً عن الأخلاق ولم يكن الأمر أكثر من مسرحية هزلية رخيصة أضاعت أجيالاً وأفسدت وطناً ” .
متابعة الرياضة والتشجيع متعة آفتها التعصّب ، والأصل فيها تشجيع لا ينجرف إلى الدناءة ، ومتعة لا تنحرف إلى العداوة ، لا نُؤذي ولا نُؤذى ، والمتابع العاقل من أخذ من وقت الرياضة فترة استجمام لا سوط لجام من كلام ، يذهب ماء الحياء والأدب ، فالكرة ذات الجلد المنفوخ لا تستحق مثل هذا وإن كانت هدفا ، فالتعقّل مطلوب ، والتوازن مرغوب !. ، ولا أزعم في مقالي هذا أنّي لست من أهل الكرة والتشجيع والرياضة ، لكن يؤسفني أنّ الفرح عند بعض الرياضيين أصبح شماتة وشتيمة ، وأنّ الحزن عند بعضهم بات حتفاً يدفن الأمنية ، فالكرة العوراء نافست العيون الحوراء في صرع العقول ، فترى المرء متّزن القول ، سبوق الصول ، تبهرك أفعاله قبل أقواله ، فإذا ما أظهر عشقه لناديه الراكن بين بُطيني قلبه سألت : أين ذهب عقله لما تراه من تمزيق ثوبه فرحاً بفوز فريقه ، فيا لغرابة تصرّفه ، أو تسأل : أي عشق كشف باطن الأخلاق الكامنة الجاهلة الجارحة حين تراه مثلاً ، يكسر أشعة التلفاز حزناً لخسارة ناديه !. ، ولا أجد أنسب لحال أمثال هؤلاء مع هذه الكرة والبيضة المستديرة من وصف الشاعر العراقي معروف الرصافي حين قال عنها واللاعبون يتقاذفونها :
وتدورُ بين اللاعبين فمُحْجِمٌ
عنـــها .. وآخر ضاربٌ مقدامُ
لا تسـتقـرُّ بحـالـةٍ ، فـكـأنّها
أمـــلٌ بهِ .. تتــقاذف الأوهـامُ
التشجيع رُقي لا يفهمه المتعصّب ، ومَن يبهره الإبداع تجده متواضعاً في فرحه ، مبتسماً غير مكترث في هزيمة ، لكن هناك من أهل الرياضة من يسيئون إليها ، لأنّ بعضهم يبنيها على المراهنة والمصادمة والتشفّي من خصمه ، وخصمه عنه ساهٍ لاهٍ ، ولربّما رماه برمح التلاحي رغم مباركته له ، ولا يعلم أنّ الرياضة عند صاحبه إنّما هي فترة نقاهة ودِعة وقضاء سلوة وفضاء متعة ، مع علمه أنّها أداة تُدار فتستدرّ الجيوب وتُدير العقول فتستديرها عن ما هو أهم في مناحي الحياة ، قال معروف الرصافي :
لا بد من هزل النفوس فجدّها
تعبٌ وبعض مزاحها استجمامُ
إنّ الجسـوم إذا تكون نشيطةً
تقــوى بفضل نشاطها الأحلامُ
والرياضة لا يحميها من لا يغطّي خانة التعصّب ، فيترك في المرمى هدفاً يفسد الذوق والسلوك ، فلا بد من الضرب بيدٍ من حديد على أيدي أولئك الذين جعلوها غاية لا وسيلة ، فشوّهوا شيئاً ولو قليلاً من صورة الوطن المشرقة ، والأكيد أنّ الإعلام بوسائله المتنوّعة له دوره الأكبر في إشعال فتيل التعصّب أو إطفائه ، فهو الحامل الساقي للدلوين إمّا الماء أو الزيت ، فمَن للنار إذا جفّ الماء ، ومن ذا الذي يجفّف الزيت إذا اشتعلت النار ، فبيد الإعلام إيقونة سحرية كفيلة باختلاق جوٍّ من المنافسة الشريفة دون أذى ، فمتى يعي بعض القائمين عليه دورهم ، فالإعلام رسالة ، ورسالتهم أمانة ، والأمانة لا تُسند إلّا لأهلها ، فأقول :
وإذا الأمانةُ ضُيّعت من أهلها
أترى لهـا أمـناً يعيشُ جوارها ؟!
– فاصلة منقوطة ؛
أخي المشجّع ، لا تسرف في تفاؤلك ربّما أغرقك بحره ، ولا تفرط في فرحك ربّما أسكت قلبك نُدرته !.
———————————
إبراهيم الوابل – أبو سليمان
ibrahim7370@
الاثنين – الموافق
25 – 7 – 1440هـ
1 – 4 – 2019م
( أسوأ الأشياء يا سيدي أن نتحدث عن أخلاق لا نمارسها ، وفضائل لا نعرفها ،) ليتهم يفهمون إنها فوز وخسارة !!! والروح الرياضية الجميلة للأسف لم يعد لها وجود الله يصلح حال شبابنا وألف شكر لصاحب النوافذ المبدعة
الله عليك كلام رايع
بارك الله فيك استاذ ابراهيم
كلام جميل ويمس القلب والمشاعر
احسنت قولا وكتابة
مقالاتك دائما مميزة جدا
مقالاتك دائما رائعه وشيقه
من نجاح الي نجاح استاذ ابراهيم
عبارات ذات جمالية خاصة وتوظيف جيد للإستشهاد وذكاء في التعاطي مع الموضوع.. تسلم
موضوع متميز للغاية
مقال رائع جدا
شيء في غاية الروعة
أخي المشجّع ، لا تسرف في تفاؤلك ربّما أغرقك بحره ، ولا تفرط في فرحك ربّما أسكت قلبك نُدرته !.
شئ ممتاز
تبارك الله
حوار رائع للغايه
جميل مبدع
أصبت الهدف ياأديبنا في التعصب ومايعانيه المجتمع من هذه الآفة مقال رائع من كاتب أروع
الشكر لصحيفة هتون بالتوفيق ان شاء الله
شئ جيد للغاية
ممتاز..كلام في الصميم
كلام يوزن بالذهب
أخي المشجّع ، لا تسرف في تفاؤلك ربّما أغرقك بحره ، ولا تفرط في فرحك ربّما أسكت قلبك نُدرته !.
كالعادة الاستاذ ابراهيم يتمتع بنص عجيب وراقي جدا
ممتاز وفقكم الله
شكرا لصحيفة هتون علي الابداع
جميلة هذه الزاوية..لقد ادمنت علي قرائتها
شكرا شكرا
من المعروف ان معظم مشجعي كرة القدم يغلب عليهم السطحية والتفاهة
مقال يتطرق لموضوع في غاية الاهمية بمكان
عوراء ولكنها فاتنة..عنوتن مميز
متي الصحف الالكترونية تحذو حذو صحيفة هتون من حيث الرصانة والصدق
التعصب لكرة القدم من امراض المجتمع الفتاكة
شي جميل ورايع
وإذا الأمانةُ ضُيّعت من أهلها
أترى لهـا أمـناً يعيشُ جوارها ؟!
لا بد من هزل النفوس فجدّها
تعبٌ وبعض مزاحها استجمامُ
إنّ الجسـوم إذا تكون نشيطةً
تقــوى بفضل نشاطها الأحلامُ
مبدعون كالعاده بالتوفيق ان شاء الله
مقال رائع
مقال مميز كالعاده
متميزين كالعاده
ماذا تركت من الأحداث يا زمنُ
في كلّ عهدٍ لنا في سرّهِ عـجبُ
جميل
أبدعت أستاذنا
سلمت يداك أستاذنا
بوركت أستاذ إبراهيم
رائع جدا
أحسنت فيما خطت يداك أستاذنا
متابعة الرياضة والتشجيع متعة آفتها التعصّب، والأصل فيها تشجيع لا ينجرف إلى الدناءة، ومتعة لا تنحرف إلى العداوة، لا نُؤذي ولا نُؤذى، والمتابع العاقل من أخذ من وقت الرياضة فترة استجمام لا سوط لجام من كلام، يذهب ماء الحياء والأدب، فالكرة ذات الجلد المنفوخ لا تستحق مثل هذا وإن كانت هدفا ، فالتعقّل مطلوب، والتوازن مرغوب..
نصيحة غالية جدا
موضوع مهم، وللأسف تحولت الساحة الرياضية إلى ساحة صراع ما يجعل المرء ينفر من متابعة الرياضة بعض الأحايين.
والرياضة لا يحميها من لا يغطّي خانة التعصّب، فيترك في المرمى هدفاً يفسد الذوق والسلوك، فلا بد من الضرب بيدٍ من حديد على أيدي أولئك الذين جعلوها غاية لا وسيلة، فشوّهوا شيئاً ولو قليلاً من صورة الوطن المشرقة، والأكيد أنّ الإعلام بوسائله المتنوّعة له دوره الأكبر في إشعال فتيل التعصّب أو إطفائه، فهو الحامل الساقي للدلوين إمّا الماء أو الزيت، فمَن للنار إذا جفّ الماء، ومن ذا الذي يجفّف الزيت إذا اشتعلت النار، فبيد الإعلام إيقونة سحرية كفيلة باختلاق جوٍّ من المنافسة الشريفة دون أذى، فمتى يعي بعض القائمين عليه دورهم ، فالإعلام رسالة، ورسالتهم أمانة، والأمانة لا تُسند إلّا لأهلها.
صدقت وأبدعت أستاذ إبراهيم
كلام في الصميم
دام إبداعك أستاذنا الفاضل
إبداع لا مثيل له، وزاوية متميزة، تداخل الشعر فيها يزيد من جمالها..