إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

صراع الخليفتين ( 1-2 )

لم يزل الشعر بفصيحه بين صحراء وجبال ورياض العرب منظومة تجمع السحر من البيان ، والعظمة في التبيان ، والإعلام في بني الإنسان ، والحكمة في الجَنان ، والطلاقة في اللسان ، ولم يكن الشعر وسيلة تكسّب في بداياته بقدر ما كان قوّة في القدح والمدح والمزح والرزح ، ودرباً في بلوغ الغاية وإصابة الحاجة والردح ، فكم رفيعٍ وضع ، ووضيعٍ رفع ، ولئيمٍ قرّب ، وكريمٍ غرّب ، رغم ما يشدو به من الفضائل ، وما يكتنزه من جواهر ثمينة تتلألأ بالفأل لمن أخذ بحكمته وانتفع بتجربته ، لذا كم فكّ أسر سجين ، وسدّ جوعة مسكين ، وهدى ضالّاً إلى اليقين ، وكم ألقم الجهالة بالحجّة ، وقلّم مخالب الفتنة ، وجرّد السيف من غمده للقطع ، وهيّج الرمح في رهجه للنقع ، فردّ الكيد والعدو ، فكان الظفر والسموّ ، فبين ألحان أوزانه عجائب قد لا تقع بدءاً على الخاطر ، وفي أعماق بحوره غرائب لا يبرح منها الحائر ، وفي ظنّي أنّ الشعر قبل قرنين من الزمان كان وسيلة الإعلام الأولى بين أفنية العرب ودورها وحماها وقصورها ، فواقع التاريخ الأدبي يشهد بكثير من الحوادث التي دوّنها مداد الشعر بين صفحاته ، فكان له زمام النشر وحقوق الحفظ وأدلجة الفكر إن صحّ التعبير ، فيمكن القول إنّه لولا الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى ما كان لهرم بن سنان والحارث بن عوف ذكر ، فقد سعيا في الصلح بين عبس وذبيان ، وتحمّلا ديات قتلى الحرب بينهما ، ونشرا السلام في غطفان ، ليسجّل زهير ذكرهما على مرّ التاريخ قائلاً :

لعمري لنعم السيدان وجــدتما

    على كل حالٍ من سحيلٍ ومبرمِ

تداركتما عبساً وذبيــان بعدما

    تفانوا ودقّوا بينهم عطر منشمِ

ونقيض هذا الإطراء ما أقدم عليه الشاعر الأموي جرير من القدح في قبيلة الشاعر النميري حين استكفّه عن مهاجاته والانحياز للفرزدق ضدّه ، فكتب فيه قصيدة تهلهلت في سبعٍ وتسعين بيتاً سُمّيت بـ ( الدامغة ) منها هذا البيت الذي طارت به الآفاق ، حيث قال :

فغضّ الطرف إنّك من نميرٍ

    فلا كـعـباً بلـغــت ولا كـلابا

ولغضّ الطرف قصة ليس موضعها هنا ، والمقصد أنّه يدعو الراعي لأن يغضّ طرفه مهانةً لانتسابه إلى النميريين فهم لم يبلغوا مكانة كعب قبيلة والدته ولا كلاب قبيلة والده ، والشاهد من القصة قول النميري بعدما أنشد جرير القصيدة : خرجنا من البصرة فما وردنا ماء من مياه العرب إلّا وسمعنا البيت قد سبقنا إليه حتى أتينا حاضر بنى نمير فخرج النساء والصبيان يقولون : قبّحكم الله وقبّح ما جئتمونا به ، ومنذ ذلك الحين سُمّيت بالدامغه حتى أخذ بنو نمير يغيّرون اسم قبيلتهم وينتسبون إلى قبائل أخرى.

وفي المقابل كانت هناك قبيلة تأنف من لقبها ، إذ كانت تسمّى ببني أنف الناقة فكانوا يتجاوزن هذا اللّقب عند ذكر نسبهم ، ويجدون حرجاً من ذكره ، وأصبحت القبائل لا تناديهم إلّا به ، ولكن ما الذي غيّر موقف القبيلة منه ؟ ، وأصبحت تفتخر به !. ، لا شكّ أنّ للشعر دور في ذلك ، ليُغيّر موقف الناس منهم ، فما أن سمع الشاعر المخضرم الحطيئة بقصّتهم حينما ذكروا له ذلك ، وطلبوا منه قصيدة ترفع من قدرهم مدحهم من ساعته بقصيدة أخذوا يردّدونها ، منها هذا البيت الذي بدّل سوء الحالِ وأخرس القالي ، حيث أوجز فقال :

قومٌ هم الأنف والأذناب غيرهم

    ومن يساوي بأنـف الناقة الذنبا

وبعدها ظلّ هذا اللّقب مدعاةً للفخر عندهم ، وعند القبائل الأخرى ، بل حتى بين بطون كتب الأدب ، فالأنف فيه دلالة على الشموخ والعزّة والكرامة ، ونخلص من هذه القصة أنّه مهما وثبت على المرء أعراض اليأس ، عليه ألّا يستسلم لها ما دام يملك الإرادة والبأس ، ومن قدرة الشعر وبسالة رسالته الإعلامية ما كان من معلّقة الشاعر الجاهلي عمرو بن كلثوم التغلبي التي كانت ولم تزل من روائع الشعر فطالما تغنّت بها قبيلته بين قبائل العرب ، حتى أشغلتهم عن كلّ مكرمة وخير ، وكاد أن يُسقِط شأن قبيلته بيتان من الشعر حين قال أحد الشعراء :

ألهى بنى تغلبٍ عن كلّ مكرمةٍ

   قــصيدةٌ قالها عمرو بن كلثومِ

يفـاخـرون بها مُـذ كان أولـهم

   يا للرجال لـفـخرٍ غير مــسؤومِ

ولربّما أبقى الشعر حكاية فرواها لنا في مطوّلة أو معلّقة أو قصيدة أو في نتفة من بيت فسافرت معه عبر عقود أو قرون حتى وصلتنا ، والشواهد في هذا كثيرة ومعلومة ، إذ ليست بالقليلة ولا المعدومة ، وهي بين أفانين الأدب بيّنة ومدعومة ، كما أنّه ليس هناك أقبح من الشعر حين تطأ قدماه القصور ، فيكون كالعبد المأمور ، وأرذل ما في هذا أن ينطق بالافتراء ، ويزمّر بالغُلواء ، فيعزف بـ( التطبيل ) إن صح التعبير  ، كقول الشاعر العباسي أبي نواس في الخليفة هارون الرشيد :

وأخفــتَ أهل الشرك حتى إنه

    لتخافك النُّطَــفُ التي لم تُخلقِ

وبعد …  فما الخليفتان اللّذان لمّحت إلى إحدهما في مقالي هذا ، وكيف دار الصراع بينهما ، هذا ما سأطرحه في مقالي القادم … بإذن الله.

– فاصلة منقوطة ؛

الشعر قهوة روحي حين أكتبهُ

… وأحتسي منهُ ما يبرى به الألمُ

———————————

إبراهيم الوابل – أبو سليمان

ibrahim7370@

الاثنين – الموافق

4 – 7 – 1440هـ

11 – 3 – 2019م

مقالات ذات صلة

‫15 تعليقات

  1. عبارات كلها معاني ودلالات وحكم تسلم أستاذ أبو سليمان.. أشكرك الشكر الجزيل..

  2. لعمري لنعم السيدان وجــدتما
    على كل حالٍ من سحيلٍ ومبرمِ
    تداركتما عبساً وذبيــان بعدما
    تفانوا ودقّوا بينهم عطر منشمِ

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88