إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

السؤال الثاني … وعــي وقــرار.

حينما تُعرض أمامنا مسألة أو نجد أنفسنا أمام وضع أو مشكلة، فإن الأمر يحتاج منا التصرف وأخذ التدابير اللازمة والمناسبة، والناس هنا نوعان أو قسمان: نوع تابع ونوع مستقل.
أما النوع التابع: فيبحث عن نموذج قائم في المجتمع والثقافة، فيستحضره ويتخذه نموذجًا يقيس عليه، ويتخذه مرجعًا في الحكم بالقبول أو الرفض، ويعتبر نجاح السابق دليلًا على نجاح اللاحق، ويؤمن أن نجاح من سبقنا في هذا دليل على نجاحنا أيضًا، وكلما تابع الجيلُ الجديد الجيلَ القديم، كلما وفر لنفسه أسباب النجاح وابتعد عن أسباب الفشل والضياع، فلم المغامرة بفكر جديد وتجربة جديدة والحل موجود جاهز، وقديمًا قيل من قلد عالمًا لقي الله سالمًا.
أما النوع المستقل فيرى الأمر على نحو آخر، لأنه يعتبر أن لكل جيل الحق في البحث عن حلول مناسبة له، أي إن على كل جيل أن يبدع لنفسه ما يناسبه من مناهج التفكير والنظر، وأن يبني حياته على النحو الذي يناسبه، وهذا يقتضي بالضرورة الاستقلال في أسلوب النظر عن كل أشكال النقل والتبعية، ولهذا يقال دومًا إن الاستقلال شرط الإبداع.
وبين هذين النموذجين في الوجود سواء كان ذلك على مستوى الأفراد أو المجتمعات صراع كبير للغاية، فالنوع الأول يتهم النوع الثاني بالتمرد والانحراف على القيم السائدة والأعراف القائمة والنماذج الناجحة، ويتهمه بالانسلاخ عن ماضيه والتبرؤ منه ويرى فيه عابثا لا يستفيد من تجارب الأقدمين الذين يحملون الحكمة والخبرة البشرية، وان هذا العبث يجب مقاومته لأن التمسك بوجودنا لا يكون إلا من خلال التمسك بهويتنا، وهذا لا يكون إلا بالتمسك بالذين سبقونا وجربوا ونجحوا، فمن لا ماضي له، لا مستقبل له.
والنوع الثاني يتهم النوع الأول بالماضوية والتعصب للزمن الذي ولّى ولن يعود وأنهم لا يفقهون حركة الزمان التي تسير دومًا سيرًا أماميًا لا يعرف انحرافَا ولا تقهقرَا، وأنهم عائق أمام كل تقدم فعلي وواقعي وسبب كلّ تخلف نعيشه الآن ونحياه، وينادون بضرورة الدفاع على الحركة والاستقلالية والانعتاق من كل تبعية مفسدة للعمل ومعيقة للتطور.
هذا هو الواقع الذي نحياه بين فريقين لم يعرف أيّ منهما الاتفاق مع الآخر في أيّ نقطة من نقاط الوجود والحياة، أحدهما يرى الخير في الماضي وبالتالي وجب إحضار الماضي دومًا لنحياه، والآخر يرى الخير في المستقبل الذي يجب أن نبنيه بجهدنا وفكرنا، فما الحلّ؟ وما السبيل للخروج من هذا الصراع المدمر الذي يجعلنا نتحرك في مكاننا لا نكاد نبرحه، والعالم من حولنا يزداد قوة وعظمة في كل لحظة؟
ومحاولة منا للمساهمة في البحث يجب أن ننتبه إلى عناصر عديدة ومركبة لفهم الأمر جيدًا والتعامل معه دون تحيّز أو تحزب ودون تعصّب أو تنطّع، ولعل من أهم هذه العناصر عنصر الزمن وحركة التاريخ التي تنبئنا دومًا بأن الزمن في حركة لا تتوقف وأن اليوم ليس غدًا ولا أمسًا، وأن عبرة التاريخ تقول بأن الحضارة تراكمية وأن القديم بدائي بالنسبة لمن أتى بعده، ولهذا لما نؤرخ نبدأ بالعصر البدائي والعصر الحجري، فنقول العصر البدائي مثلًا، ولم نعرف ولا مرة في التاريخ البشري أن أمة رأت فيمن سبقها نموذجا تكرره، وإنما رأته منطلقًا تتجاوزه، فلو طبقت البشرية نموذج الماضوية لبقيت البشرية في عصرها الحجري لم تتجاوزه، ولأن البشرية في تاريخها جعلت من القدامى منطلقًا لتجاوزهم ومواصلة العمل والتقدم والبناء والإبداع، بنى الإنسان الحضارات إلى أن وصلنا إلى لحظتنا التاريخية المعاصرة، فدرس التاريخ البشري يقول إذن إن كل أمة مسؤولة عن عملها وإبداعها ومساهمتها الخاصة في مواصلة بناء الحضارة، وأن أيّ توقف عن هذا سيكون عائقا يجرّ البشرية إلى الوراء بينما التاريخ يسير إلى الأمام. وإذا رمنا فعلا احترام من سبقنا والسير على نهجهم فعلا فعلينا أن نفعل فعلهم لا أن نقول قولهم. وبما أن أجدادنا استقلوا عن ماضيهم وبنوا الحضارة وأبدعوا وفكروا وجددوا وبنوا النظريات العلمية والفلسفية والدينية والفنية والأخلاقية والسياسية وغيرها، فإن أحسن إكرام لهم أن نتخذهم قدوة، أي أن نفعل فعلهم ونستقلّ عنهم كما استقلوا هم عمن سبقهم، ونواصل الفعل والإبداع، فننشئ النظريات العلمية والفلسفية الجديدة، وننشّط الحركات الفنية لنبدع فنونا جديدة ونكون فعلا يدَ بناء لواقعنا الحاضر وليس يدَ مستهلك يعيش عالة على إبداع الآخرين إن لم يكن أداة تدمير لها.
إن قدوتنا ومنطلقنا هم بناة حضارتنا الأولى، فإن فعلنا فعلهم نحقق شروط إبداعنا المعاصر ونستقل بإبداعاتنا وحياتنا، وإن رددنا قولهم ومعاييرهم ونظرياتهم فقطـ، فإننا بذلك سنعيد إنتاجهم ولن ننجح في بناء حاضرنا أبدًا. وإذا حقّ لنا الفخر بأجدادنا لأنهم استقلوا فأبدعوا، فهل سيفتخر أحفادنا بنا؟ أم أننا لم نترك لهم أيّ إرث جميل يذكروننا به بعد رحيلنا سوى تكرار ما تركه آباؤنا والصراع حوله.
المسألة وعي وقرار، فمتى نعي ومتى نقرر؟

…………………………………

كتبه / الدكتور نور الدين السافي 

مقالات ذات صلة

‫9 تعليقات

  1. مقال فلسفي جميل
    فعلا
    قدوتنا هم منطلق حضارتنا قادتنا الأوائل
    شكرا لهذا الطرح دكتور السافي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88