11المميز لدينافن و ثقافة

القط العسيري .. فن “ألوان الطبيعة” الذي تخطى الحدود ليصل إلى العالمية

منذ أن بدأ الرحالة الغربيون في استكشاف ودراسة الثقافات المتعددة في جنوب الجزيرة العربية ، كانت الفنون التقليدية من أهم ما لفت أنظارهم ، فألفوا عنها كتبا عديدة وأنجزوا من خلالها دراسات علمية وأكاديمية أكسبتهم شهرة واسعة، ومنهم الجيولوجي الأمريكي”كارل تويتشل ” والأكاديمي الفرنسي الشهير “تييري موجيه”.
ويلخص “موجيه” الذي درس فنون النقش والعمران في منطقة عسير ما توصل له في كتابه ” الجزيرة العربية .. حديقة الرسامين ” الذي أصدرته مكتبة الملك عبدالعزيز العامة بترجمة الدكتور معجب الزهراني، بالقول: لا تأبه منطقة عسير الواقعة في جنوب المملكة العربية السعودية التي تتمتع بتراث معماري وتجميلي فريد واستثنائي، للأفكار النمطية المسبقة التي تتراكم في مخيلة الغرب.. فأبنيتها الصخرية مزخرفة برسوم من حجر المرو ، صممت وفق نماذج هندسية أو نباتية، تستقبل الزائر بواجهات مرقشة بمنتهى الروعة ، وأحزمة متمازجة من الألوان الجريئة ، أقواس قزح براقة ، طقوس من الألوان المنضدة بانتظام … هذه التصاميم الخارجية ليست إلا غلافا يخفي في داخله مهرجانا من التصاميم متعددة الألوان ، يغطي الجدران والسقوف والأبواب ، وكأن بيوت عسير تلتهم الألوان بنهم ، والفضل في ذلك يعود لنساء المنطقة اللواتي يزين بيوتهن بالعفوية التي يشدو بها البلبل الغريد “.
و في دراسته التي أنجزها عام 1995م ، برز فن “القَط العسيري” ـ الذي سجلته “اليونسكو” مؤخرا ضمن القائمة التمثيلية للتراث العالمي غير المادي ـ كأهم عنصر جمالي درسه “موجيه” بشكل علمي .
و”القَط” هو فن تزيين جدران المنازل في منطقة عسير منذ مئات السنين ، ويعتمد على الزخارف الهندسية البديعة التي تستوحي أبعادها ودلالاتها من الثقافة المحيطة، وخصوصا ألوان الطبيعة .
وكلمة ” قَط” في معاجم اللغة العربية تعني ” خَط” أو ” نحت” أو” قطع”، وهو ما تفعله المبدعات من نساء منطقة عسير في المنازل ، وخصوصا منازل الأثرياء ووجهاء المجتمع قديما.
وعاد فن” القط العسيري” لواجهة الاهتمام العالمي بعد أن تم اختياره ضمن القائمة التمثيلية للتراث العالمي غير المادي، لدى منظمة “اليونسكو” وذلك خلال الاجتماع الـ 12 للجنة الحكومية الدولية لصون التراث الثقافي غير المادي في جزيرة “جيجو” بكوريا الجنوبية خلال الفترة 4 إلى 9 ديسمبر الماضي ، وبذلك ينضم إلى التراث الثقافي غير المادي السعودي المدرج في قائمة التراث العالمي سابقا وهو فن الصقارة (2012)، والمجالس (2015)، والقهوة العربية (2015)، والعرضة النجدية (2015)، والمزمار الحجازي (2016 ). إضافة إلى التراث المادي المدرج الآن في قائمة التراث العالمي وهو “مدائن صالح” التي أدرجت في عام 2008، و”حي طريف بالدرعية” الذي أدرج في عام 2010، و”جدة التاريخية” التي أدرجت في عام 2014، و “نقوش حائل الصخرية” التي أدرجت في عام 2015.

وتعد الجمعية السعودية للمحافظة على التراث إلى جانب المندوبية الدائمة للمملكة في “اليونسكو” ووزارة الثقافة والإعلام من أهم الجهات المحلية التي عملت على إنجاز ملف “القط العسيري” المقدم لـ”اليونسكو” الذي تم بموجبه اعتماده ضمن التراث العالمي غير المادي.
وفي أبها أقام فرع جمعية الثقافة والفنون برنامجا فنيا استمر لمدة أسبوع كامل واشتمل على ورش تشكيلية تركزت على توظيف عصري لفن”القط العسيري” في لوحات جديدة أنتجها فنانون وفنانات من أبناء منطقة عسير .
وخلال العقد الأخير ارتبط فن”القط” بالجانب السياحي في منطقة عسير بشكل كبير، حيث أعيد لذاكرة المجتمع من خلال لوحات جدارية نفذتها سيدات اشتهرن بهذا الفن في بعض المواقع السياحية والفنادق من أشهرها ما نفذته فاطمة أبو قحاص رحمها الله.
ثم تطور الاهتمام إلى تنظيم دورات فنية متخصصة في فن “القط” شاركت فيها عشرات الفتيات المهتمات بالفنون ، ومنها دورات نظمتها الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني ممثلة في برنامج الحرف والصناعات اليدوية ” بارع” والجمعية السعودية للمحافظة على التراث، بالتعاون مع إحدى المؤسسات الفنية البريطانية المهتمة بالفنون التقليدية للشعوب، حيث كان الهدف منها تسويق منتجات فنية تعتمد على تشيكلات” القط” وإيصالها إلى الأسواق العالمية ، وهو ما تعمل عليه حاليا الهيئة والمؤسسة البريطانية.


ولعل الحدث الأهم في مسيرة هذا الفن العريق هو عرض جدارية لـ”القط” في مبنى الأمم المتحدة بنيويورك في أواخر عام 2015 ، نفذتها 12 من منطقة عسير تحت اسم” منزل أمهاتنا” بطول 18 مترا ، وحظيت حينها بإقبال بإعجاب كبير من زوار المكان ، الذي استقبلهم وشرح لهم أسرار الجدارية صاحب فكرة العمل الفنان الدكتور أحمد ماطر والمشرف على إعدادها الباحث علي مغاوي .
وعلى الرغم من ندرة الدراسات المحلية عن الفنون اليدوية مثل “القط” الذي لا يعرف تاريخ محدد لبداية انتشاره في المنطقة ــ إلا أن دراسة أكاديمية لأستاذ الآثار المساعد بجامعة الملك خالد الدكتور علي عبدالله مرزوق ، رصدت بعض المحددات الفنية لفن”القَط العسيري” العريق، يقول مرزوق” في منطقة عسير التي تمتاز بغنى فني وثراء تشكيلي زخرفي ، شغل إنسان المنطقة الواجهات والحوائط الداخلية لمبانيه التقليدية بوحدات زخرفية جميلة ، نابعة من معطيات بيئته وقائمة على الوحدات الهندسية المجردة والعناصر الزخرفية النباتية والأشكال الرمزية المستمدة من النباتات والجمادات ،محاولاً إيجاد علاقة تبادلية ما بين الزخارف المشكلة على الأسطح الخارجية من المبنى ، والزخارف المشكلة على الحوائط الداخلية ،على الرغم من اختلاف القائمين على تنفيذها ، فالزخارف الخارجية يقوم بإبداعها الرجال ، بينما تقوم النساء بنقش ما بداخل المنزل”.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. ”القَط” هو فن تزيين جدران المنازل في منطقة عسير منذ مئات السنين ، ويعتمد على الزخارف الهندسية البديعة التي تستوحي أبعادها ودلالاتها من الثقافة المحيطة، وخصوصا ألوان الطبيعة .

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88