إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

الأعجوبة الضعيفة

العقل نعمة تذهل من قدرته العقول المستبصرة ، وتدهش من تمكّنه القلوب المبصرة ، يفتق اللسان بالحكمة ، ويردّ المقالة بالمحجّة ،  لم تره عيون ، وما تأمّله بجنون ، إذ في زمن أوقد النار بالأحجار وبعد حين ألهبها بالأفران ، وحفظ الوقت في ساعة رملية فأنجزها ساعة رقمية ، وامتطى الدابة لحماً وعظاما ، فأجراها فولاذاً تسير به خلفاً وأماما ، شحذ الحرب بالسيف بارقة ، حتى حملها بالبندقية حارقة ، صعد الفضاء فعانق الجوزاء ، ابتدع فأبدع ، واخترع فأخضع ،  ركب البحر على جذوع من شجر الخيزران  ، ففكّر وغاص في التفكير حتى حملته الغوّاصة إلى بقاع القاع فاستكشف شعابه المرجانية وشاهد الحياة السفلى بتفاصيلها التي لا تملّ وغرائبها التي لا تنتهي ، ودقّق في الطبيعة فاستحضر  منها الدواء حتى استنصله في مختبرات تعالج أمراضاً بدائية كان قد هلك منها الكثير فكافح حتى نجا على يديه من حاصره أعسر المرض ، وضرّه الرمض ، وكواه البرد ، وأسقمه الجَهْد ، فأتى بما يعجز الوصف في ذكره ، فهذه آلة لفحص البطن ، وتلك للأسنان ، وتلك لجمجمة الرأس ، وتلك للعظام ، وتلك … وتلك … وتلك ، واستدار والتفت حتى أتى بالخوارق فزحزح الجبال ، وشقّ القنوات ، واستعذب البحر ، وناطح السحاب ، وقرّب البعيد ، وأفصح به الليل ، فكان كالنهار معاشا ، لا يخلو بيتٌ من شمس مصباح نيّرة ، تبث أشعتها بين أركان المنازل وحارات المدينة قبل استيقاظ الشمس الكبرى ، ومضى العقل في طريقه يستحدث التجارب حتى اكتشف باختياره من يحاكيه فيجاريه ، فأحلّه موضعه ومقامه ، وأقرأه أفكاره وأحلامه ، فأرشده للأخذ بأمره والانتهاء عن نهيه ، فكان للحاسب الآلي السبق في عمل كلّ ما يريد منه العقل فعله ، فغلبه في الشطرنج وهو من علّمه ، وبحث له في الكتب وهو من أفهمه ، وعرّفه بالناس وهو من عرّف الناس به ، ولم يبقَ للعقل طريقٌ دون هذا بل واصل سيره حتى صنع معجزته – (الروبوت) أو الرجل الآلي أو (الإنسالة) منحوتة من (الإنسان الآلي) – فكلّفه بأعمال خطيرة ودقيقة وشاقة ، كالكشف عن الألغام والصعود إلى الفضاء والتخلص من المواد المشعّة المضرّة وغيرها من الأعمال التي يقع ضررها على الإنسان فيما لو قام بها بنفسه ، فجعل العقل (الإنسالة) خادماً للإنسان مطيعا يخاطر بمكوناته على أن يعيش الإنسان رفاهيته .. قال الشاعر :

لله درّ الـــعــقـــل من رائـــدٍ

     وصاحبٍ في العسر واليسرِ

إنّه العقل ياسادة ، فهل لتفكيره حدّ ؟! ، فالعين يقف نورها إلى حد ما ترى ، والأذن يقف سمعها إلى حد ما تسمع ، وأنى للعين أن تقف مقارعة نوراً الشمس فلربّما أعماها ، وأنّى للأذن أن تستجيب لكلّ أصواتٍ صاخبةٍ حولها فلربّما أصمّتها ، ومرة أخرى أتساءل هل لتفكير العقل حدّ ؟! لأقول :

وقف السؤال مهمهاً في خاطري

     وجـوابه يُنمي الفضولَ تسـاؤلا

أعتقد يقيناً أنّ العقل له حدّ كغيره من الحواس فمن سبح في الغيبيات وسمح لعقله تجاوز حدود المنقول من الشريعة فقد هلك وأهلك ، لأنّ العقل يبقى ضعيفاً أمام قوّة الغيب ، والإيمان القلبي يفرض على عقل المرء عدم التجاوز ، وإلا كان الهلاك الذي قلّما ينجو منه إنسان ترك لعقله السيطرة على معتقده كمسلم ، وهل أهلك كفّار قريش إلّا تقديم عقولهم على ما أخبرهم به النبي ﷺ – وهو الصادق الأمين عندهم – حين كذّبوه في قصة إسرائه إلى بيت المقدس في هزيع من الليل ، فقالوا : ( كيف ونحن نقطع أكباد الإبل إليها في شهر كامل ) .. والمتأمّل في أيامنا هذه يقطع المسير إليها في ساعتين  ، فسبحان ﷲ !!.

وجملة القول أنّ العقل قد يدرك الحقيقة والحكمة منها فيأتيك بالمبهر ، وقد يقف تائهاً إذا لم يُوفّق إلى الهدف فتتلقّفه الحيرة ، وقد يهلك إذا لم يقبل المنقول فتركله الشقوة ، وقد يزيغ إذا لم يُسلّم فتتخبّطه الضلالة ، فعلى هذا يبقى للعقل حدّ كما للبصر والسمع حدّ عليه ألّا يتجاوزه وإلّا أصابه العته فهو قاصر أمام الخافي من الحُجب ، قال تعالى : ( وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ).

– فاصلة منقوطة ؛

الإعاقة ليست في القصور الذهني أو البدني ، وإنّما في العقل إذا تسلّـط عليه الهوى !.

———

إبراهيم الوابل – أبو سليمان

ibrahim7370@

الاثنين – الموافق

8 – 5 – 1440هـ

14 – 1 – 2019م

مقالات ذات صلة

‫58 تعليقات

  1. العقول قدرات والذكاء له دور في انه يخلي الأمر ينتهي بسرعة او يقف عاجز أمامه ودة بيكون رزق من الله

  2. مقال رائع بمعنى الكلمة لا تمل من قرأته …والعقل البشري يتطور بأستمرار ولكن لا يستطيع مثلاً الإجابة على الغيبيات ولا يصل إلى الكمال فالكمال لله وحده سبحانه ، ومن ذلك قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.) فلا يمكن أن يتصوره عقل البشر نسأل الله من فضله ..
    شكراً أستاذنا وننتظر جديدك وشكرًا صحيفتنا على مثل هذه المقالات الرائعة

  3. الإعاقة ليست في القصور الذهني أو البدني ، وإنّما في العقل إذا تسلّـط عليه الهوى !.

    اوافقك تماما

  4. قال تعالى : ( وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ).

    هذا مربط الفرس

  5. أعتقد يقيناً أنّ العقل له حدّ كغيره من الحواس فمن سبح في الغيبيات وسمح لعقله تجاوز حدود المنقول من الشريعة فقد هلك وأهلك

    كلام عين العقل والبصيرة

  6. وافقك استاذنا في هذا الكلام

    فجعل العقل (الإنسالة) خادماً للإنسان مطيعا يخاطر بمكوناته على أن يعيش الإنسان رفاهيته .

  7. مقال مهم ، تراء لي في وقت طويل من القراءة للمقال أني أقرأ نص نثري عن العقل وتسرب لنفسي الملل لإسهاب الكاتب في وصف قدرات العقل ولكن وبعد بدأ الملل يتسرب إلى نفسي يفاجئني الكاتب بأنه يكتب مقال وينقش موضوعا وهو العقل وأنه لابد يكون له حد ،وهو كلام لا غبار غليه ؛ وكم شقى أصحاب الغقول بعقولهم !

  8. العقل ان كان أعجوبه فكل أجزاء الجسم أعجوبه لقدرة الله تعالى …
    موضوع جيد لكن سبق ذكرت أن اسلوب السجع الذي تكتب به استاذ ابراهيم ليس في هذا العصر
    هذا كان في عهد الجاحظ … وغيرهم نحن الان في عصر الكلمة الممتعه والاسلوب السهل ..

  9. للعقل حدوده التي لا يستطيع تجاوزها لأنه يستقي معطياتها أولًا وأخيرًا من الحواس المحدودة بدورها، ولذلك لا يمكنه تفسير ومنطقة المعجزات، والإيمان يفرض التسليم التام.

  10. سبحانه جل شأنه هو وحده علم الإنسان ما لم يعلم، فكيف لعضو واحد من أعضاء الإنسان أن يرفض المعجزات الإلهية ويحاول إخضاعها لحساباته

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88