إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

الثقافة ليست للمثقفين فقط 

كثيرًا ما أكتشف وأنا متواجد في المناسبات الثقافية، حقيقة أبصم بعدها بالعشرة، مفادها أن الفعل الثقافي ليس لفئة دون أخرى، وليس لجنس من البشر دون غيره، وليس لمستوى بعينه دون أولئك الذين بإمكانهم مشاطرتنا الكلمة، والإبداع الجميل، والسموّ الرُّوحي البهي، فقط لأنهم ذوّاقون للحرف والإبداع.

إنه من الظلم الشديد، أن نعتبر الثقافة حكرًا على أساطينها فقط، كما أعتبره تضييقًا لشساعتها، وتقليصًا من حجمها، وكأنني أعيش زمنًا تتعرّض فيه الثقافة وفعلها إلى حملة شرسة من الإنكار، بالرّغم من أنها لا تُنكر في حقيقتها أحدًا، بل تمسك بيديها على كل فرد يستطيع بطريقة أو بأخرى شقّ طريقه إليها.

إذًا؛ فلماذا تُحتكَرُ الثقافة؟ ولماذا يُحتكر الشّعر؟ ولماذا يُحتكرُ الإبداع؟.

من السبُلِ الوعرة إلى النفاذ للمتلقّي البسيط أن يجد المثقّف نفسه بين فئة المثقفين فقط، داخل قاعات مُغلقة، ومنابر مُحكمةُ الانزواء، وكراسٍ قاصرة على الاحتواء، كما أنه من السُّبُل العسيرة على نفاذ رسالة المثقّف، والتي تزيد من مَهَمّته تضييقا وخنقًا، أن لا يَترك لحبره متّسعا للمُصغين إليه، والسليمة ذائقتهم الشعورية، هؤلاء لا يكتبون، وقد لا يقرؤون، لكنّهم حتما يتذوقّون الشعر والأدب أيّما تذوُّق، ويتنفَّسونه أوكسجينا.

يحضرني موقف حصل معي منذ أيام قليلة، وأنا أجالس ثلة من الشعراء والأدباء، وكان كلٌّ منا يُسمِع الآخر جديده حول ما كتب، حتى أتى دوري، وكنت أقرأ حينها قصة لي أتذكّر عنوانها جيدًا “حبٌّ وعَبَرات” حتّى دخلت عائلة نسوة، رجالًا وأطفالًا، وما كان لي أن أتوقّف عن القراءة، ظنًّا مني أن المستمعين هم فقط من أصحاب صَنْعتي، حتى فرَغْتُ من القراءة، ورفعت رأسي، وإذ بامرأة من الحضور تقول: واصل قراءة الشِّعر .. ولم يكن في حقيقة الأمر شعرًا، بل هو قصّة كما أوردت سلفًا، ثم قامت وانصرفت بعد أن كانت مُنصتَة جيّدة ومتلقية متذوّقة، تميّز بين الجميل وغيره، بالرغم من أنها لم تكن تعلم أي لون من الألوان الأدبية كانت تستمع إليه. لكنّ الأكيد وما أنا متيقّن منه، هو أن ما سمِعَتْه أطرَب وشنّف أذنها، وهذا هو الواجب في الثقافة، أن نقرأ للآخر، لا أن يقرأ الشاعر للشّاعر، والكاتب للكاتب في قاعات مُظلمة مُغلقة.

إنّ امتطاء واعتلاء هرم الثقافة والإبداع يستهدف في الأساس إيصال فكرة واضحة جليّة، ليست بالهشّة ولا بالعصيّة، لا تستنكرها الآذان ولا الألباب السويّة، والنفوس التي لا تُضمر داخلها شوائب تَفِتِك بها، إذ لا يمكننا وفي هذا العصر بالذّات، والذي نحن والأمة جميعًا بحاجة ماسة للثقافة بمفهومها الواسع، أن نكتب لخاصّة القوم، وهو ما أعتبره ظلمًا ثقيلًا من صاحب القلم تجاه نفسه أولًا، وتجاه من هم بحاجة إلى التنوير ثانيًا، سواء كانوا شبابًا أو شيوخًا، نساءً أو رجالًا، متعلمين أو أميين، مثقفين أو غير مثقفين.

من ناحية أخرى، يهمني جدًّا أن أشير إلى فكرة أراها تفشّت وفاحت رائحتها في الأوساط الثقافية المحلية أو الوطنية، وحتى العربية. أين باتت الثقافة محطة لتصفية الحسابات؟، وهو أمر محزن اختلَّت به ركائز الفعل الثقافي وأسسه، حتى ترجّل من عليائه، ولم يعد في شموخه كما كان في الوقت الذي كنت فيه أسمع عن أن الثقافة بإمكانها أن تُوَلي بوجهها شطر المشرق والمغرب، دونما حسابات ضيّقة، ومعارك بالكاد تحطّ أوزارها بين من يتوسّم فيهم القاصي والدّاني الرّفعة والسموّ والفضيلة.

الإعلامي الجزائري/ طارق ثابت

مقالات ذات صلة

‫15 تعليقات

  1. احسنت الكلام .. انت المثقف حين ادركت ماوصل اليه المثقفون من استعراض ثقافتهم امام بعضهم وتجاهل حاجة البسطاء من الناس .

  2. دخلت الثقافة للأسف السنوات الأخيرة معترك الصراع السياسي مما أدى إلى انحطاط الحقل الثقافي

  3. الإبداع ملك يد الجميع يتوقف على المقدرة… لكن من يستطيع قيادة إبداعه وينظمه هو من يصبح مثقفًا

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88