إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

وَمِنْ الأوهَامِ مَا يَنَالُكَ نَفْعُهُ!

يقول الشاعر الشعبي أسِيرُ الشَوْق؛ الأمير نواف بن فيصل: (أنا مَقْدَرْ أعيش اللي بَقَالِي من العمر بأوهام). وكثيرا ما نقول نحن، أو نسمع – من يقول لنا أو لآخرين-: (كفاية أوهام)، و (أنت واهم) ونحوهما. وكأن الوهم مأساة ما بعدها من مأساة!

مهندس الكلمة الشاعر الأمير بدر بن عبد المحسن، يستجدي مُحِبَهُ في إبقائه في حالة بين الشك واليقين، وهي في الأخير بَعْضُ (وَهْمٍ)، وإن كان مؤقتا، ويقول:

كَانَهَـــا الفَــرْقَى طَلَبــْـتَكْ حـــَاجَتَيْن

 لا تـــِعـَـلِــــمْنــِي ولا تـَــكـْــذِبْ عَـلـــــــَـــــــيّ

خَـلَنــِي مَــا بـــين شَكــِي والــيقيــــــــــــــــــــن

 الــسُـكُــوت رِضَـــــاي عَنــَك وَزَعَلـِــي

والسؤال الذي يطرح نفسه: (أليست بعض الأوهام ضرورية للحياة؟). فماذا يضير امرأة متزوجة أن تعيش في وهم أن زوجها يحبها حدَّ الثمالة، ومخلص لها، رغم أن الحقيقة غير ذلك تماما؟ 

وماذا يمنع مريضا يظن أنه علته يسيرة، وأنها قريبا سَتَزول، ويتماثل للشفاء، رغم أن الطبيب قال لذويه شيئا مختلفا بالكلية.

يقول فرويد؛ العالم النفسي الشهير: (ليس بالضرورة أن تكون كل الأوهام خاطئة)، ويعطي مثالا على ذلك وهو: “أن فتاة فقيرة تحلم وتتوهم بأن أميرا سيتزوجها، فهذا الأمر غريب، لكنه ليس مستحيلا”.

وأما الفيلسوف الألماني (نيتشه) فيرى أنّ التخلص من الأوهام أمر صعب، ولكنه يرى – من جهة أخرى – إنّها قد تكون نافعة، ويمكن التعايش معها في بعض الأوقات.

عالم اللغويات، والفيلسوف المعاصر؛ (نعوم تشومسكي) له مقولة بديعة عن الوهم، يقول فيها: (باختيارٍ مِنا، يُمكِنُنا أن نعيشَ في عالمٍ من الوهم المريح).    

ولعل من الوهم النافع – إن صح التعبير – نزوع الإنسان إلى التفاؤل، حتى على مستوى اللغة، ومفرداتها، والعربية – شأنها شأن كثير من اللغات – حبلى بالأمثلة في هذا الصدد، ومنها:

 أن كلمة (البصير) تقال أيضا للأعمى تفاؤلا وأملا. و (المفازة)، أصل معناها النجاة من الهلاك، أما إطلاقها كاسم للصحراء؛ وهي مرادف الهلاك والموت، فمن قبيل التفاؤل ليس إلا.

ولفظة (شَوْهَاء) مفردة تقال للمرأة الجميلة أصلا، ولكنها تطلق على المرأة القبيحة (لعلها تصبح جميلة ذات يوم)!

وكلمة (وَشَل) تقال للماء الكثير، ومن أجل الاستبشار ، والفأل الحسن تقال أيضا للماء القليل لعله بأمر الله يصبح كثيرا.

أرى أن قليل من الأوهام تفيد الحياة، مع التشديد والتركيز والتنبير على كلمة (قليل)، ورأيي هذا لا ينبغي أن يُسْتَعْجُل في الحكم عليه، بل ينبغي تقييمه بتحرر وحيادية تامة، من أي حكم مستقر في الأذهان، أو تصورات سابقة تكتفي بظاهر الفكرة، وبحمولات مفردة (وهم)، وتداعياتها فحسب.

ومن الجدير ذكره هنا أن (الوهم) يتحول إلى حقيقة أحيانا متى ما تشبع به العقل الباطن؟ وهاهم علماء النفس، وأصحاب البرمجة اللغوية العصبية، وممارسو التنويم الايحائي، والبارعون في علوم الطاقة يعرفون ذلك جيدا، ويمكن أن تتحيز إليهم فئة من الأطباء، وعلاج الـــــ (بلاسيبو) شاهد عدل على ما قلت، وهو عبارة عن مادة تُعطى للمريض بهدف علاجه، ولا يكون لها تأثير حقيقي في علاج المرض بعينه، فبها يتم إيهام المريض نفسيا بأن العلاج الذي يتناوله، يحمل شفاءً لمرضه، وأنه علاج فعّال في التخلص منه.

ويستخدم علاج الـــــ (بلاسيبو) أيضا في اختبارات الأدوية الجديدة، وفي الأبحاث الطبية، دون معرفة المُتداوي عما إذا كان الدواء فعّالًا أم لا. ويطلق طبيا على الحالة التي يجد فيها متلقي الدواء – أنه قد شعر بتحسن فعلًا بسبب توقعاته الشخصية – “تأثير الدواء الوهمي” أو “استجابة الوهم”.

وليعذرني (أبو الطيب المتنبي) في اقتباسي شطرا من بيته الشهير، بعد تحويره قليلا عنوانا لمقالي هذا وهو البيت الذي يقول فيه:

وَمِنَ العَداوَةِ ما يَنَالُكَ نَفْعُـــــــــــــــــــهُ

وَمِن َالصّداقَةِ ما يَضُـــــــــرّ وَيُؤلِمُ

ولعله من نافلة القول التأكيد أن الوهم في عمومه مرض ينبغي علاجه، وهو شقيق الجهل، ونتاجه، والأديان السماوية الحَقَّةُ جاءت من أجل محاربته، والقضاء عليه، وتحرير الإنسان منه، فعبادة الأوثان والأصنام والشخوص هي نتاج وهم أنهم آلهة، أو أنهم يضرون وينفعون. والمدارس والمعاهد والجامعات – في قيامها برسالتها في التعليم – فهي تقضي على أوهام تعيش وتعشعش في أذهان تلاميذها وطلابها في جوانب شتى من جوانب الحياة والمعارف.

وكما افتتحت هذا المقال باقتباس لشاعر شعبي، فإنني أرى من المناسب أن أُذَّيُلُهُ باقتباس من شاعر (فصحى)؛ وهو الأستاذ أحمد اللهيب الذي يقول في آخر أبيات قصيدته المعنونة بـــــــ (جمرة من صدى صوتها):

مَتِعِي قلبيَ الحزينَ بوهمٍ

إنّ سرّ الحياة وهمٌ، وكانا!

☘️??☘️??☘️??☘️??☘️??

بقلم الأديب العربي / خلف بن سرحان القرشي 

مقالات ذات صلة

‫28 تعليقات

  1. صدقت في عنوانك ..وتميزت استاذنا في طرحك ونلت شرف الكتابة الأدبية الابداعية ..فلله درك ولي تعليق على بيت الشعر هذا
    وَمِنَ العَداوَةِ ما يَنَالُكَ نَفْعُـــــــــــــــــــهُ
    وَمِن َالصّداقَةِ ما يَضُـــــــــرّ وَيُؤلِمُ
    بل من مجرد المعرفة ماينالك ضرره..
    سلمت أناملك ودام يراعك لهتون…ونسعد بانتظارنا لاشتيار

  2. كلام جميل من شخص اجمل وشخصية مؤثره تحياتي لك استاذي الفضل واسأل الله ان يمتعك بالصحة والعافية

  3. اقتباس رائع من شخص أروع
    ومن العداوة ماينالك نفعه
    ومن الصداقة ما يضر ويؤلم
    مبدع يا أستاذ خلف كالعاده ماشاء الله في كتاباتك واطروحاتك

  4. نقراء معقول لكن نعلق على ما تنتقي وتكب غير معقول لانك مبدع وصاحب ذوق رفيع منذ ان عرفناك
    محمد عسيري

  5. شو هكا تحكوا مايدرش الكلام حول الوهم ..
    مقاله مزاينه يعطيك العوافي بنعرفه انه مجاملة شيء والحقيقة شيء اخرى بداية منخفوش من المضرة بيكون نافعة .

  6. اي والله .. التوهم والوهم مفيد خاصة مع الذين نبغا نرفع نفسياتهم مثل ماقلت يادكتور
    فماذا يضير امرأة متزوجة أن تعيش في وهم أن زوجها يحبها حدَّ الثمالة، ومخلص لها، رغم أن الحقيقة غير ذلك تماما؟
    كذلك المريض اذا الطبيب عطاه وهم انه كويس .
    مقال مشجع للمحبط على الامل وراحة نفسه
    يعطيك الخير

  7. استاذ خلف حياك وبياك وجعل الجنة مثواك
    فيما كتبته من حيث التأليف فإن أجزاء الجمل والعبارات تخلق نوعاً من مايسمى علاقات لسانية وضعت كما يقول جدي طيب الله ثراه ( أنها سمة أسلوبية ونوع من التأليف المخصوص للعبارة، تكون مشبعة بذاتية المتكلم، وتكشف عن بصمته الأسلوبية في الكلام. لذلك كانت معرفة القوانين اللغوية في المستويات الصوتية والتركيبية والدلالية، أمراً في غاية الأهمية؛ لأنّ هذه المعرفة تعدّ مدخلاً أساسياً لتحليل العبارة التي تنطوي على تأليف مخصوص في بنائها الأسلوبي) وقد أجزلت في ذلك وأجدت وجاءت اقتباساتك العامية والفصحى ذات رونق زادت من فهم الفكرة لمقالك .
    شفعت لك حروفك.. وجماليات نصك، وأعانك الله على المنتظر منك.

  8. شكرا أستاذ خلف على هذه المقالة الجميلة

    وممتن لك حيث تجد شعري ما يليق بأفكارك.

    أحمد اللهيب

  9. تَوَهَّمتُ خَيراً في الزَمانِ وَأَهلِهِ
    وَكانَ خَيالاً لا يَصِحُّ التَوَهُّمُ
    فَما النورُ نَوّارٌ وَلا الفَجرُ جَدوَلٌ
    وَلا الشَمسُ دينارٌ وَلا البَدرُ دِرهِمُ

    مقال رائع من كاتب متميز

  10. هناك أمراض كثيرة لا تغادرنا إلا بتوهم الشفاء منها، فالعامل النفسي يلعب دوره البارز في كل مجالات الحياة، صدقت أديبنا، وننتظر المزيد.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88