إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

الغريزة والإرادة.

سلوك الإنسان الظاهر هو المُعبّر عن سلوك الإنسان الباطن، ونعني بسلوك الإنسان الباطن التفكير والإحساس والرغبات والغرائز وكل القوى الفاعلة في الإنسان والموجهة لسلوكه الظاهر، أي مُمارساته وأقواله وأفعاله ومواقفه وغيرها، أي أن السلوك هو الإنسان في وجوده الظاهر والباطن معًا، ولأجل هذا يُعرف علم النفس عمومًا بعلم السلوك، ولمَّا نعود إلى فعل الصيام الذي كتبه الله على المؤمنين ومقارنته بالتقوى نلاحظ أنه فعل يقوم على الإرادة بل ويشترطها لأنه لا قدرة للإنسان على الصيام لولا قوة الإرادة، فالصيام أمر رباني يسير في الاتجاه المعاكس لطبيعة الإنسان الحية، أي غريزة الإنسان ورغباته، فالإنسان حيّ، والحياة فعل جسمي عميق يعبّر عنه الحضور الجسدي للكائن، لأن الجسد وحدة عجيبة من القوى الحية التي تعمل مشتركة في انسجام عجيب،وتقاس قوة القوى الحية في الكائن بمدى قدمها في الوجود، ولمّا نلاحظ بداية حياة أيّ إنسان منذ ولادته ندرك أن قوة الجسد المولود هي أقدم قوى الإنسان وجودًا، فالجنين الذي يولد ويبدأ رحلة الحياة يحمل معه لحظة وجوده أقدم القوى الحية فيه وهي قوة الجوع والعطش وغريزة الطعام والشراب، لأنه بفضل هذه الغريزة يضمن الطفل الرضيع حياته وبقاءه، فنراه يُقبل على صدر أمه يمتص حليبها في حركة عجيبة غريزية لا مثيل لها، فالغريزة قوة بقاء الإنسان وكلّ كائن حيّ، وهي من أجلّ النعم على كل كائن حيّ عمومًا وعلى الإنسان بوجه خاصّ لأنه بفضلها يضمن الحيوان بقاءه ويضمن استمراره الفردي، ومع النمو يتحول الطفل بعد سنوات قليلة إلى مرحلة كبرى في حياته تظهر فيها ثاني أكبر قوى الإنسان فاعلية وهي القوة الجنسية التي نسميها بمرحلة البلوغ وبداية الرشاد؛ لأنه غالبًا نقيس ظهورها وفعلها برشاد الإنسان ونضجه أي بداية استقلاله وتحمّل مسؤولية أفعاله، والتي نُسميها غالبًا بمرحلة التكليف، والغريزةُ الجنسية قوة فاعلة في الكائن لأنها تضمن له البقاء النوعي، وبظهورها يكون الجهاز الحيّ في الإنسان قد اكتمل، فمع غريزة الجوع يضمن بقاءه الفردي، وبغريزة الجنس يضمن بقاءه النوعي، ومع هذا الاكتمال الغريزي يأتي خطاب الصيام ليواجه أعتى غرائز الكائن الحي أي غريزة الجوع وغريزة الجنس معًا في وقت واحد، وهي الأعتى لأنها الأقوى والأقدم والأعظم وهي شرط البقاء الفردي والنوعي، يأتي الصيام ليخاطب الإنسان ويأمره بالتوقف عن الاستجابة لهاتين القوتين ومجابهتهما معًا في وقت واحد، يأمره الصيام بأن يُمارس سلوكًا جديدًا ولمدة معدودة ومعلومة، وجدة السلوك تظهر في أمر واحد وهو عدم الاستجابة لصوت الغريزة، أي صوت شرط البقاء الفردي، وصوت شرط البقاء النوعي، يأمر الصيام الإنسان بأن لا يسمع نداء الجسد الحقيقي والطبيعي، وأن لايستجيب له في كل الحالات مهما كان النداء قويًا وفاعلًا ومؤثرًا، وبهذا الأمر الإلهي المضاد للطبيعة الجسدية يجد الإنسان نفسه مع بلوغه بين قوتين قوة كبيرة قديمة وهي قوة الدوافع الغريزية، وقوة ممانعة جديدة هي قوة العقل والدين، وبهاتين القوتين يتكون الجهاز النفسي عند الإنسان، والجهاز النفسي هذا يتكون أولا من قوة الغريزة الأولى وثانيًا من قوة المنع والكبت، وهاتان القوتان متصارعتان دومًا في الإنسان أي قوة الدافع وقوة الكبت، ومع هاتين القوتين المتصارعتين وعبر أداة التربية الأسرية والاجتماعية تتكون القوة النفسية الثالثة في الإنسان وهي قوة الأنا الأعلى التي تحمل قوة القيم والنظام والمبادئ، أي قوة الأخلاق، وهي آخر قوى النفس ظهورًا، وبظهورها يكتمل الجهاز النفسي عند الإنسان، ويبدأ الإنسان رحلة حياته بوصفه الخليفة المكلّف بإعمار الأرض، إن الإنسان وقتها يكون جاهزًا فعلًا ليحمل الأمانة ويعمل في الأرض؛ لأن جهازه قد اكتمل وصار جاهزًا، لذلك لم يعد الصراع فيه قائمًا بين قوتين فقط قوة الدافع وقوة المنع بل وقوة القيم أيضًا، وهو ما يعبر عنه علماء النفس بتعب الإنسان الفعلي في الحياة لأنه يخدم أسيادًا كبيرة ويصعب الجمع بينهم، وهو الذي عبر عنه القرآن الكريم بالنصب والكبد، فحياة الإنسان الطبيعية حياة صراع حقيقي بين قواه الداخلية من جهة وبينها وبين القوى الخارجية من جهة أخرى، وفي هذا السياق ندرك حكمة الصيام، أي حكمة الأمر الإلهي بالتحكم في أقوى غريزتين في الإنسان الجوع والجنس، وهو أمر يُدخل الإنسان في رياضة جسمية أولًا وروحية ثانية، أما الجسمية فتتمثل في تطبيق الأمر الإلهي بتوقف الإنسان عن الاستجابة لغريزته طيلة أيام رمضان من الفجر إلى الغروب مدة شهر قمري كامل، وأما الروحية فتتمثل في الوعي بقوة الإرادة التي تبدأ في النمو مع هذا الفعل، فالإرادة قوة مكتسبة تنمو وتقوى شيئًا فشيئًا مع الزمن وبهذا النمو تظهر إنسانية الإنسان، فالإنسان إنسان بالإرادة وليس بالغريزة، ومن ثم كان الوحي تربية للجنس البشري كما يقول الفيلسوف الأماني لسنج، وكان الصيام من أقوى الطرائق وأنجحها في تحقيق هذه الإنسانية وتقويتها، إن الصيام هو المحرك الموجه أولًا والمسرّع ثانيًا في تحقيق إنسانية الإنسان؛ لأن الإنسان لا يولد إنسانًا إلا من حيث إمكاناته الأولى وإنما يصير إنسانًا بفضل التربية، فكان الصوم الذي يبدأ مع البلوغ أفضل الوسائل التربوية في بناء إنسانية قوية ومعتدلة ومتوازنة؛ لأنه قوة توازن نفسي لا مثيل له، وهكذا صار واضحًا لنا أن من حِكَمِ الصيام الثابتة والأكيدة أنه مقوم من مقومات الوجود الإنساني لأنه من أبرز شروط تكوين هذه الإنسانية فيه، وأنه الذي يقي الإنسان في رحلة حياته شر السقوط في الاضطرابات النفسية السلوكية، ألم نقرأ نصيحة الرسول صلى الله عليه وسلم للشباب: ” يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء” وقوله بأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق فضيقوا عليه بالصوم، وغيرها من الوصايا النبوية التي تُظهر لنا حكمة الصيام الفعلية في بناء إنسانية الإنسان القويمة وتربيته واستقامته لأن الإنسانية تبقى دومًا إنشاء تربوي كما يقول الفيلسوف  الألماني كانط.

نخلص من هذا، إن الصيام هو مدرسة الإرادة في الإنسان، بها تعليم أن يكون مريدًا وفاعلًا ومستقًلا مالكًا لقراره وحرًا في مواقفه، وأن هذه الإرادة تقوى باستمرار بفضل الصيام الذي يواجه الغريزة الإنسانية بل أقوى الغرائز الإنسانية، فبالإرادة يكون الإنسان إنسانًا وليس بالغريزة، لهذا كان الصيام مدرسة تربوية لتحقيق إنسانية الإنسان، وهي التي عبّر عنها النص القرآني الحكيم بقوله: ” لعلكم تتقون”. 

=============

بقلم الدكتور / نور الدين السافي

استاذ الفلسفة والدراسات الإسلامية

جامعة الملك فيصل بالأحساء

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. تحليل منطقي ومقنع..
    لمفهوم الغريزة والارادة..
    كتبت فاقنعت وابدعت دكتور نور الدين
    بوركت

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88