إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

قراءة نقدية لنص (مكتظ بك) للأديب والكاتب/ سلطان فاتح

سفر في نص يعج بالنوستالجيا وهباب الروح النساب، من الأستاذ/ رياض عيساوي

**********************

مكتظ بك!؟ الآن، اللحظة، الحين؟، دخول مباشر في صلب الموضوع، من أجل تأكيد الحالة والظرف المفضية للبوح قبل سرد الحيثيات والتفاصيل لقضية الحال وما سيتضح في سياق النص.

جملة واحدة كانت بليغة (مكتظ بك الآن)؛ لاستدراج القارئ، واستفزاز جميع حواسه، حتى ينسجم مع ما هو آت. وقد نجح الكاتب المتلبس بالحالة في شد الانتباه وتفعيل تقنيات التشويق العفوية، النابعة من وخز حقيقي، وصدق صارخ أمين في تسويق صورة إحساس جميل دفين، وتشتغل الموسيقى الجبرانية العذبة في السياق، وتصدمنا أولى اللوحات المتشكلة بالصورة (محطة أولى) المكتنزة بالذاكرة، الفلاح البسيط بالذاكرة المكانية، كما بالتوصيف: يسحب عنه قبعة السعف، ويمسك شاربه ما بين سبابته وإبهامه، ويقوم فيطيله، وهو يستمتع بالأغاني الشاوية القديمة، كما لو أنه خالي البال، هادئ، هانئ، مرتاح (طبعًا هذا انطباع)، أما الذاكرة الزمانية في حدود هذا المقطع، مشار إليها بموسم الصيف (موسم الحصاد وجني ثمار بتواريخ تصدى بالذاكرة).

الشيء الذي يتجلى بالمحطة الموالية (حيث يختبئ الحب والذكريات الجميلة) منعرح جديد سلس، مسترسل بتقنية الواصف الذكي الذي يبني نصه بهرمية هندسية، لتبليغ المعاني والمقاصد من دون إحداث اختلالات في نهج السياق المنتهج ولا بالنسق، الذي فرضته الحالة والهالة التي بدا عليها في مستهل تجلياته، فنرغب أكثر بتتمة القراءة ومتابعة القراءة بشغف وشوق، دونما ملل ولا مقت.

إذًا: المحطة الثانية (حيث يرقد الحب وتتقد اجمل الذكريات)، كشفت نوعًا ما عن سر هذا الاكتظاظ، وأكدت أن هذا الوجد من عيون الكاتب: خلف غابات الفلين العظيمة، وكثيف السناء (انطباع مسافر في النص)، تختفي أجمل قصص الحب التي اشتعل فتيلها فجأة في نفسية الكاتب، الذي يعود تلك الديار، ويستعيد التواريخ، مستلقيا على ظهره مشبكًا عشرية خلف قفاه (كما نتخيله بالتوصيف): -أذني التي لا أنام عليها-،لأنه في وضع المتأمل المستلقي على تلك الحال، عبثًا تحاول أذناه استقطاب بعض الذبذبات من تلك الأغاني الشاوية التي كانت مصدر إشعاع الفرحة والبهجة.

نزعة وجدانية رومانسية، فجرتها الحقول الخضر، حتى يسمعنا ردة فعل هذا الإنسان المحاور في نصه بالنزعة الإنسانية المتدفقة بالشوق والحنين وعذابات الروح، وصداءات الأنين.

ويتبدد الطلسم بمطابقة تلك المشاهد الجميلة من واقع انتهى في الزمن، مع حاضر اللحظة المخيبة للأمل في قوله: أذني التي لا أنام عليها، صارت ساحة غنّاء لصراصير حزينة، حول كتاب المواعيد المفقودة (الحال ليست كما تلك الحال).. لماذا؟

لماذا تحجرت الأفكار، صارت صخرة سوداء؟، لماذا لم نعد نجني ثمارًا من موسم الحصاد؟ بينما نجد كومة من القش (الذات المثقلة، المعذبة، الأنا المنسكب في نصه، الأنا الصارخ، المتحول، المتبدد  في جبل من قش، محصول سنوات حصاد بالنظر إلى وزن القشة التي لا قيمة لها بالوزن: (جسدي جبل من قش جُمع بعد الحصاد)، أعزل من كل شيء، حتى يقاوم، لا فأس ولا سكينا ولا منجلًا.ولا حتى رصاصة : ربما ليضع حدا لهذه المهزلة التي لم يعد يرضاها ولا يتقبلها جملة وتفصيلا، كونها أحدثت الفجوة في الزمنين الماضي الجميل والحاضر اللئيم.

بالضفة الأخرى: (المحطة الثالثة)- تحريف السلوك، وردات الفعل اللا إرادية: حيث الحارس كلب وفي ينبح في صدري: أما الكلب، فمشبه به للنتشبه: الضمير المتحدث في النص: وفي الجمال والحب ولا يقوى أن يتغير إلى عكس ما هو عليه. من ناحية أخرى نقول “بالأصل والأصالة والثبات على الوفاء للجذور التي أستأصلنا منها”.

ليتكرر صوت الأنا الدوني محرضًا على التمرد، هامسًا فيه: إياك أن تشتهي بحرًا ملوثًا (ربما البحر قبلة المصطافين.. لم يعد يروق، كونه يسع حتى المتسخين -انطباع-، وعذبه ينساب خلف غابات الفلين تلك).

ويعود بنا الكاتب في مرثية وبكائية، ليصف الحال الراهن، أمام هذه المتقلبات والمنقلبات، والمتناقضات المرفوضة شكلًا وموضوعًا، فنجده: يهش على قلبه المسكين، كأنما يريد أن يتحسسه ويلمسه بيده، ويمسح عنه غبار هذه المتراكمات من صنع حضارة عفنة، لا طهر عليها ولا عفة، سوى العهر والعري والفجر، ووجع كبير بالقلب وصداع مستديم بالدماغ، لأنه لا يملك تفاسيرًا ألحقت به كل هذا الأذى، ولا يعرف للحقيقة المطلقة سبيلًا.. فقط يعلم نصفها. (أحكم الكاتب قبضته في توصيف الألم، رغم أننا لا نراه، لكنه أوثق إحساسنا بإحساسه، وأتقن توصيل الصورة والمبتغى، وحدث عن حقيقة صراع الأنا الأعلى مع نظيره الدوني، وجسد لنا صورة حية عن الشخصية المتمخضة عن هذا الصراع، شخصية رومانسية، متطبعة في حقل الطبيعة، تتوق للخضرة والماء (تطارد الإياب في دمي الأخضر)، شخصية حيزها المروج الخضر، وحقول السناء -انطباع- تمقت حياة الحضر، وتعشق حياة البدو والقفر.

وينتهي بنا النص الذي تناص معه الكاتب كذلك القارئ إلى حد التمازج: الوجد من يملي، والأنامل من تخط، والذاكرة لا تنكفئ عن التدفق؛ فيخبرنا بالاعتراف الصريح: أن نصه كتب من هناك، من ذات المكان الذي وقف على عشبته المشبعة من ماء السقي، حيث كان يرعاها ويقوم عليها، وها يبكي الآن أطلالها –مجازًا-، وتغمر الدموع تلك الأرض البور، بعدما أجهزت عليها الريح (بدلالات الريح)، وخلفت الصمت والسكون، وموت الأخضر.. كذلك أسدلت الستار عن أجمل ملحمات الحب والذكريات الجميلة، لتنام هناك خلف غابات الفلين، وترقد في سلام خلف الجفون.

النص.. صورة متحدثة في السطور، كلفنا عناء المشاهدة والاستمتاع، قبل القراءة، وأعترف كسباح لا يجيد فن العوم، أنني شعرت فعلًا بالراحة والاستجمام، بكل المحطات التي استوقفتنا في النص المفعم بالحنين.

شكرًا للنص، ونخب العشبة.

(يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر)، تلكم قراءتي، ربما يفيئ غيري بما لم تستقطبه عيناي.

********************

النص:

مكتظ بك الآن

مكتظ بحقول الصّيف

وأغاني الناي الشاوي العتيقة

حين يراقص تواريخ فلاح بسيط

يضع قبعة من السعف ويطيل شاربه

 

الحب هناك يختبئ خلف

غابات  الفلين  العظيمة

بينما

أذني التي لا أنام عليها صارت

ساحة غناء لصراصير حزينة

حول كتاب المواعيد المفقودة

 

أفكاري صخرة سوداء في رأسي

جسدي جبل من القش جُمع بعد الحصاد

لا أحمل فأسًا ولا سكينًا

لا أحمل رصاصة

أنا بعيد جدًّا في الضفة الأخرى

حيث الحارس كلب وفيّ ينبح في صدري

يقول: امكث منعزلًا…

إياك أن تشتهي بحرًا ملوّثًا

 

أهش قلبي المسكين

الذي يعرف نصف الحقيقة

والثاني شرارة كره مسمومة

تطارد الإياب في دمي الأخضر

تقفز كأرانب الحقول خلف الغفران

 

كانت عشبة تهاب اليباس

رسمت على جسدها دموعي الشفافة

ورسمت بكاء السنابل

خشية الريح الكاسرة

ألد نصا ولوحة وأجهض السنوات.

 

الكاتب الجزائري/ رياض عيساوي

مقالات ذات صلة

‫72 تعليقات

  1. ما شاء الله
    اخي في كل كلمة تكتبها
    براعم ورد ينعش القلب نشرها
    وفي كل يوم برعم الورد يكبر.. سلمت يمناك بما سطرت

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88