إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

تأريخ الكمامة الصحية والتكميم السياسي

صورة الكمامة أصبحت من مبدئيات المشهد اليومي في أغلب دول العالم، يتخذ منها الناس حائط صدّ أمام فيروس كورونا، ومن المرجّح انها ستبقى لفترة طويلة تغطي الأنوف والأفواه، متناغمة مع موجة تظاهرات عالمية تنتقد “تكميم” الأصوات المعارضة حتى في أكثر الدول عراقة في الديمقراطية، ولعلها مصادفة لا ميعاد؛ حيث كوفيد 19 يتزامن مع احتجاجات عالمية، ليختلط مفهوم “التكميم” بين الصحة والسياسة، وحيث مفردة الكمامة، مقتبسة في الأصل من الفعل كَمَّمَ، الذي يعني في العربية (الستر، والسد، والمنع).

وقبْل الكمامة، التي يُؤرًّخ لظهورها في العام 1897 على يد الجراح الفرنسي بول بيرغر، كان هناك “تكميم” الأفواه، لتحصين الأنظمة من عدوى تفشي الرأي المعارض الذي يفضح الملفات ويكشف الأسرار.

ومن دون مزاوجة قسرية، في المفهوم، فإن من الواضح أن اللغة المشتركة بين الصحة والسياسة، هي الفيروسات التي تصيب الجسم، والخطاب الذي يستهدف العقول، وفي كلا الحالين، فإنّ الفم هو المطلوب تحت شفرة المقصلة.

الذي اكتشف الكمامة الطبية، لم يكن يجهل تلك القطع القماشية التي يضعها المتظاهرون في أنحاء العالم على أفواههم، احتجاجًا على سياسات خنق الأصوات وحرية الرأي، وربما لاحت في مخيّلته مشاهد الأفارقة الذي يرتدون الكمامات وهم يجتاحون الغابات للصيد، وثورات العبيد في القارة السمراء، الذين خيّطوا أفواههم احتجاجًا على القمع والعبودية.

حصد وباء الإنفلونزا الإسبانية نحو (50) مليون شخص بعموم العالم قبل نحو قرن من الزمن، عاش فيه العالم رعبًا حقيقيًّا، أدى إلى فرض حرض التجول، وأغلِقت الأماكن العامة والأسواق، والطرقات، وانتشرت شرطة خاصة تفرض العزل القسري، وألزمت حكومة سان فرانسيسكو السكان ارتداء الكمامة في أكتوبر 1918. وحين انتهت الأزمة لم تنحسر هذه القطعة التي تغطي نصف الوجه، إذ ارتداها الآلاف من المتظاهرين من جديد في احتجاجات على السياسة المحلية، في قمع حرية الرأي، وتكميم الأفواه.

في ذلك الوقت، اعتبرها الناس انتهاكًا للحريات العامة، وتأُسّست رابطة تحت اسم “ضد الكمامة” رافقتها احتجاجات وعصيان، وعدوها أداة فاعلة ضد الحرية، وكان ذلك نتاج عدم الثقة بين الشعب والسلطات، وما ينجم عنه من شك وريبة من أي إجراء حكومي، حتى لو كان غرضه صحّيًّا بحتًا.

بسبب الحساسية السياسية للكمامة، أمر مجلس الصحة في ولاية أيوا الأمريكية، بتصنيع أقنعة قياسية، تتيح الكلام الواضح، وتم رسم الهامش العلوي بإحكام فوق جسر الأنف، مباشرة تحت العينين، فيما أكدت التعليمات على أن هذه الكمامات غرضها صحيّ بحت، في إشارة إلى ضرورة تجنب اللغط والشك، وفيما إذا هناك دوافع سياسية للانتفاع من أزمات الوباء.

في 17 سبتمبر 2019 وصف الصحافيان برنارد كين، وجنين خليك، الحكومة الكندية الفيدرالية، بأنها “نظام كمامات”، ولم يكن القصد من ذلك سوى التبرم من قيود الحريات.

ينتهي المطاف بالكمامة إلى تحوّلها إلى شاكلة اجتماعية ترفية، إذ ظهر الكثير من المترفين والأثرياء والمطربين في أقنعة باهظة الثمن، وتحولت لدى بعض الساسة إلى رسائل عبر رسوم وتصاميم في رموز من الألوان والأعلام.

ظهر يساريون في فنزيلا بكمامات حمراء، وارتدى مناصرو حزب الخضر كمامات خضراء، وارتدت ماكرينا أولونا نائبة رئيس حزب فوكس الأسباني اليميني المتطرف الكمامة الخضراء العسكرية.

الرئيس إيمانويل ماكرون صبغ كمامته باللون الازرق، مفتخرًا بأنها فرنسية الصنع في حديثه لتلاميذ المدارس، وفعل وزير الخارجية الإيطالى لويجى دى مايو الأمر ذاته، لكنه تعرّض للانتقاد للريبة في الأغراض السياسية لسلوكه.

في العراق، سبقت الكمامة، كورونا، وتُظهر الصور متظاهرين ارتدوها قبل هلع الفيروس العظيم، وحين استفحلت العدوى تحدى المتظاهرون السلطات بنزعها والتوجه من جديد إلى معاقل الاحتجاج، بل إن البعض شكّك في أغراض سياسية وراء الإعلان عن توسع انتشار المرض.

الكاتب العراقي/ عدنان أبوزيد

مقالات ذات صلة

‫61 تعليقات

  1. تاريخ كبير من ارتداء الكمامة في الوقاية الصحية و استخدمت في المظاهرات للتعبير عن غلق الافواة والتعبير عن الراي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88