إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

أرطوفونيا

في الثالثة من عمره، بعد أن جاوز الخمسين، وأسس ما يمكن تأسيسه من المؤسسات، تحدثه عقيلته في إحدى جلسات الأسرة المتقطعة، بسبب تذبذبات مستديمة في التيار الكهربائي، تقول:

هل أقمت صلاة العشاء؟.
يجيب: لا.. ليس بعد، أصلي لاحقا.
صار للأذان أكثر من ساعتين منذ أُذّن للصلاة. تُلحّ في سؤالها كأنما القيامة ستقوم لحظتها. ولأن مطلبها شرعي ومؤسس قانونًا، ينبغي الاستجابة له.

قام وهو يرسم ابتسامةً خبيثة كتلك التي تضمرها نفسها خلف سؤالها الذي سيكشف لاحقا عن باقي السؤالات، موضوع النقاش الذي تريد طرحه بعد كسبها رهان الواعظ الذي يفبرك أشياء لها قيمة تجعلها تكسب الثقة والإجازة لترسيم المواضيع الكبيرة. هو الأدرى بذلك منذ اختلط الماء بالعجين. على الفور يغتسل في (جهر)، يحدث ضجة وهو يتوضأ، يريد أن يسمع أبناءه الأربعة بأن كل شيء على ما يرام، وأنه مطيع لزوجته، ويؤدي صلاة العشاء كلها (سرا).

لم تسمعه هي وهو يصلي أكيد، بعد أن أنقصت من صوت التلفاز، واسترقت السمع من الغرفة الأخرى المجاورة بأذنيها المنتصبتان، لكنها لم تسمع شيئًا.
ربي يقبلْ papa.
علينا وعليكم وليداتي.

لم أسمعك وأنت تصلي العشاء؟، سؤالها التمهيدي كان منتضرا.

ربما انشغلت بمسلسلك التركي، فلم يتسنى لكِ سماعي، بدبلوماسية الدول التي تحب السلام يرد عليها، مترقبا الآتي بعد أن صارت الطريق ممهدة.
بلا.. أنا كنت أتنَصّت عليك، ولم أسمع منك حتى تكبيرة الإحرام على الأقل.

تريد أن تطرح سؤالًا حزّ في نفسها ولم تجد سبيلًا مقنعًا تطرق به بابه، ليتها تتسرب بتلافيف مخه، فتصول وتجول بدماغه، لتعرف فيما يفكر، وما الذي يشغل باله، وإن كان يخطط لشيء ما.

أيقنَ أن الليلة ستمر بيضاء، واستشرق الأمر كيفما سينتهي الحال، وإلى أي مدى يمكن أن تؤول الأمور، ما لم يحسم في موضوع النقاش ويشفي فضولها، ويجردها من تلك الثقة التي اكتسبتها وهي تتحدث إليه بصفة الواعظ الذي يريد غرس قيمٍ أخلاقية ودينية في نفوس فلذاتها وفلذاته من خلال ترشيد وتهذيب مثلهم الأعلى، أبيهم نفسه.

طيب..! يحدثها في المباشر: أنا لم أكن أصلي.

وماذا كنت تفعل إذا وقد رأيتك بأم عيني ساجدا؟.

هل رأيتيني حقًّا؟ لم أشعر بوجودك، لكنتُ قطعت ما كنت فيه وتفرغت لك.. آسف شريكتي، لكن كيف رأيتيني ولم تسمعيني؟

هذا هو الشيء الذي حيّرني، تجيب مكشرة عن نواياها بعد أن استدرجها بحنكة الحكيم الذي يريد الأمن والاستقرار والسلام.

سأخبرك بما لم تستطعين عليه صبرا. لم أكن أصلّي، فقط كنت أحدّث الله عنكِ وعني، قلت له الكثير، وكان يسمعنا ونحن نتجادل، فلذلك لم تتمكني من سماع صوتي؛ لأني بالكاد أنطق الحروف، وأرغب بقول الكلام الكبير.

أنتَ تهذي أكيد..! هكذا توحي وقت ما شعرت من أنها بدأت تصغر مقياسا باللغة العميقة التي تفهم منها من أن كل شيء متضح لديه منذ شنّت حربها الباردة، وافتعلت الخصام. نعم كنت أتحدث إلى الله في سريرتي.

يسرد لها تفاصيل المحادثة: حدثته في أمركِ يا شريكة عمري، فيما قلت لجلالته: الشريكةُ تريد تغيير القدر، ونمط الحياة، وأنا جزء من منظومة فساد، لست أهلا ولا كفئًا بتسيير شركة غير قابلة للإفلاس، ولا أفقه في شؤون المرأة التي لا تنكفّ عن الشكوى من الاضطهاد، وأجدني ابن الثالثة من عمره الذي تجاوز الخمسين صغيرا يافعا على ولوج عوالم امرأة، وأنتهج سبل القيم المنسكبة في جيناتي، فأبني منها دولة تقوم على المؤسسات، والذي علمتني ربي أن الأسرة هي اللبنة الأولى لبناء الفرد والمجتمع.

فتبا لنظامي أنا الفاسد، واستجب يا الله لما تطلبه الشريكة.

(ما أجمل العيش في قاع المحيط، ما توفر أوكسجين، وأمكننا التنفس).

انتهى ليبتدئ.

الكاتب الجزائري/ رياض عيساوي

مقالات ذات صلة

‫71 تعليقات

  1. لمست التماسك بين الفقرات والتدرج بها من فقرة إلى أخرى؛ لإيصال الفكرة إلى القارئ

  2. راعى الكاتب ارتباط الأفكار في المقال بشكل وثيق، ولكن كنت أتمنى مزيدًا من التفصيل.

  3. أشكر جميع حضرات القراء المحترمين والمحترمات ،على عناية المتابعة لكتاباتي ،وكذلك التفاعل والإطراء والتوجيه .
    اتمنى ان اكون عند حسن ظنكم بي واعدكم بالمزيد .

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88