إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

عن فيلم: “Never Let Me Go” لا تدعني أرحلُ أبدًا

لن تجد قارئي الكريم في السطور أدناه قراءةً نقديّةً للفيلم، ولا حتى رأيًا انطباعيًّا مني حوله، فلهذا الأمر أساطينه ورواده ونقَّاده ودارسوه، وأنا أحبُّ الصالحين في هذا المجال، ولست منهم!.

إنَّ كلَّ ما ستقرأه مجرد بوحٍ ذاتيٍّ عاصفٍ، وحديث نفسٍ مؤلمٍ اكتنفني بقوةٍ، وسيطر على مشاعري أثناء وبعد مشاهدة الفيلم بعد أن أوصت الروائية الإماراتية الأستاذة فاطمة الناهض، متابعيها بمشاهدته عبر منشورٍ لها في صفحتها بالفيس بوك، والناهض مهتمةٌ كثيرًا بالفن السابع، ومتابعةٌ له، وناشرةٌ لكلِّ جميلٍ ومتميزٍ وعميقٍ فيه.

فيلم: (لا تدعني أرحل أبدًا) فيلمٌ بريطانيٌ يجمع -وفقًا لموسوعة ويكيبيديا- بين الدراما والرومانسية والخيال العلمي، وهو مقتبسٌ عن رواية لـ (كازوو إيشيغيرو)، تحمل نفس العنوان، أمَّا السيناريو فمن إعداد الروائي (أليكس غارلاند)، وأخرج الفيلم (مارك رومانك).

وفكرته الرئيسة تكمن في إعداد وتهيئة وتربية مجموعةٍ من الأطفال المستنسخين ليستفيد من يحتاج من أعضائهم البشرَّية عندما يشبُّون. ويركز الفيلم على قصة ثلاثةٍ من هؤلاء المستنسخين، كان بينهم تواصلٌ عاطفيٌّ ملحوظُ.

ووجع الفيلم يكمن في مفارقاته المختلفة؛ فأولئك الأطفال يتلقون تعليمًا مناسبًا، وتغذيةً صحيةً ورعايةً طبيّة، واهتمامًا بتعليمهم السلوكيات الصحيحة، وأكثر من ذلك تدريبًا على التواصل والتعامل والتفاعل الإيجابي مع الناس الآخرين كالبيع والشراء والحوار، وبرتوكولات الطلب من المطاعم، ونحو ذلك، كما أنَّهم يتلقون دروسًا مخصصةً في الفن التشكيلي.

من يقدَّر له مشاهدة الفيلم لأول مرّةٍ دون أن يكون قد قرأ أو سمع عنه شيئًا، يظن أنَّ أولئك الأطفال -المستضافون في أكاديميّة/ مدرسةٍ داخليّةٍ راقيّةٍ- يعدَّون ليكونوا قادةً في المستقبل أو شيئًا من هذا القبيل، ولكن المفارقة أنَّ مثلهم مثل خرافٍ أو خنازير تُسَمَّن ليأكل لحمها من يستطيع دفع ثمنه.

والأطفال المستنسخون ليس لهم أيُّ كينونةٍ أو هويّةٍ أو وجودٍ، وغير مسموحٍ لهم بالتفكير في المستقبل مثلما هو حال بقيّة الأطفال، فهم لا يعرفون ممن تم استنساخهم. وبالتالي فهم بلا أصولٍ، تقرر إحداهنَّ أن تبحث عن الأم المتبرعة ببويضتها التي جاءت هي منها. غير أنّها تنهار في مشهدٍ دراميٍّ عاصفٍ حين تكتشف الحقيقة وتعبر عنها قائلةً: ” ….. إننا خلقنا من حثالة المجتمع: من مدمنين، وعاهراتٍ، وسجناء” وأضافت قائلةً لزميليها: “الأفضل أن نبحث عن جذورنا في القمامة/ مياه المجاري”.

تبلغ المأساة أوجها في هذا الفيلم عندما يسمع اثنان منهم -فتى وفتاةٍ- عن شائعةٍ تسري بإمكانية تأخير طلب تطوعهما بأعضائهما بضع سنواتٍ، لأنَّهما ببساطةٍ واقعان في الحب. يتشبثان بالأمل، يرحلان بعيدًا للبحث عن إحدى المعلمات في مدرستهما القديمة لعلَّها تساعدهما في تأخير فترة تبرعهما بأعضائهما ليعيشا الحب سنتين أو ثلاث أو نحوٍ من ذلك. ورغم ظروفهما الصحّية والنفسيَّة، لا سيما الشاب الذي سبق أن أخذَت منه بعض الأعضاء في أول مرحلةٍ من مراحل تبرعه، ويظنان أن اللوحات الفنيّة التي كان يرسمها الفتى وما زال تنبئان عمَّا يشي بوقوعه في حب زميلته وعشقه إياها، فقد سمعا بذلك ذات يومٍ، ولكن المفاجأة في أن المعلمة تخبرهما بأنّه ليس هناك أيِّ استثناءات تسمح لأحدٍ من المستنسخين تأجيل عملية التبرع، وأنَّ ما سمعاه مجرد شائعةٍ ليس إلِّا، كما تخبرهما بأنَّهما كانا يدرسان الفن التشكيلي -الرسم تحديدًا- للتأكد من أنَّ لديهما أرواحٌ مثل بقية الناس.. فيا للوجع!

ورغم خياليّة الفكرة، إلا إنَّها تلقي بظلالها عن امتهان الإنسان لأخيه الإنسان، وعدم اكتراثه بمشاعره وأحاسيسه، ولا مبالاته بقتله حسيًّا أو معنويًّا، ولا بهويّته التي يشترك فيها معه. رغم كلّ ما حثَّت عليه الأديان السماوية والأرضيّة، والأعراف والقوانين الإنسانيّة من معانٍ ساميّة تقدس الأخوة الإنسانية، وتنهى عن القتل وتجعل إثم من قتل نفسًا بغير وجه حقٍّ، كمن قتل الناس جميعًا.
وقد يقول قائلٌ بأنّ هذا خيالٌ، ولكن ماذا عساه قائلًا عن الحروب والتشريد القسري، وغيرهما من جرائم الإبادة التي يمارسها الإنسان تجاه الإنسان منذ فجر الخليقة وحتى اليوم، وإلى أن تقوم الساعة؟ وما صناعة الأسلحة الفتَّاكة بأنواعها المختلفة والكفيلة بإبادة الحياة من على كوكب الأرض -ليس مرَّةً واحدةً فحسب بل مئات المرَّات- إلّا دليلٌ في ذات السياق.

يثير الفيلم أسئلةً كبرى ومنها: هل الناس المحتاجون لقطع الغيار البشريّة من هؤلاء الأطفال/ الشبَّان هم أولى بها من أصحابها الحقيقيين حتى لو كانوا مستنسخين؟ ولماذا يتلقى الأطفال المعدُّون للعملية البشعة تلك كلَّ ذلك التعليم والاهتمام والرعاية النفسيّة والمعنويّة في تلك المدرسة/ الأكاديميّة؟ ألم يكن الأجدى الاكتفاء بتقديم الرعاية الجسديّة والطبيّة لهم فقط؟ أم لأنَّ الجسم السليم في العقل السليم/ النفس السليمة؟ وأيُّ نفسٍ/ روحٍ سليمةٍ تلك التي تعلم ألّا مستقبل لها سوى أن تؤخذ أعضاؤها الحيويَّة عضوًا تلو آخر لمشترٍ وثانٍ وثالثٌ؟.

نقطة أخرى أثارت انتباهي في الفيلم، هو أنَّ أولئك الأطفال بعد أن غدوا شبَّانًا غادروا الأكاديّمية، وسمح لهم بالتجوال وقيادة السيارة ونحو ذلك، غير أن فكرة الهروب من المصير المحتوم لم تراود أحدًا منهم، رغم إمكانية ذلك فيما يبدو، وهو أمرٌ لافتٌ للانتباه؛ لأنَّه يتعارض مع الفطرة البشرية التي تجعل الإنسان يفر ويهرب متى ما سنحت لها الفرصة من قدره السيء متى ما استطاع إلى ذلك سبيلًا! أيكون مرد ذلك هو تلقيهم برمجةً معيّنةً، أو تعرضهم لغسيل دماغٍ ممنهجٍ تعرضوا له أثناء دراستهم في تلك المدرسة؟

أمرٌ لافتٌ آخر، وما أكثر ما يلفت في هذا الفيلم الاستثنائي، أنَّه لا يشير لأي منظمةٍ إنسانيّةٍ أو حقوقيةٍ، ولا حتى لأشخاصٍ يجرمون الفكرة والصنيع، باستثناء مُدَرِّسةٍ وحيدةٍ أتت إلى المدرسة بضعة أيامٍ، وحدثتهما بشيءٍ عن كونهما مختلفين عن أقرانهم من الناس في أنَّهم لن يكونوا في مستقبلهم شيئًا، بل مجرد قطع غيارٍ. وهذه المُدَرِّسة تستبعد من المدرسة بعد حديثها هذا! بارقة أملٍ ضئيلة تعد استثناءً يثبت القاعدة ولا ينفيها، تتمثل أنَّ تلك المدرسة أُغلقت نتيجة بعض الشكاوى.

ألا يذكرنا هذا بوهم بعضٍ منا بأنَّ أمل الإنسانية في النجاة من ويلاتها، قد يتحقق من خلال المنظمات الإنسانية والحقوقية العالمية، وعلى رأسها هيئة الأمم المتحدة؟ أحسب أن من ثِيَمِ هذا الفيلم هنا التأكيد للمشاهدين أنَّه ليس ثمَّة من أملٍ يرتجى، فالخرق قد اتسع على الراقع، والعولمة الاقتصادية تقدس الدولار لا الإنسان!.

وفي الجعبة المزيد من الأسئلة التي تلقي بظلالها في ذهن من يشاهد هذا الفيلم، وإثارة الأسئلة سمةٌ من سمات الفن العظيم حقًّا، رغم ما تبعثه في النفوس من ألمٍ، وتفرشه في الحنايا من وجعٍ يتماهى مع أنَّ الحياة نفسها صنو الألم والوجع.

“يا أيُّها الإنسان إنَّك كادحٌ إلى ربِّك كدحًا فملاقيه”.

☘️??☘️??☘️??☘️??☘️??

الكاتب والمترجم/ خلف بن سرحان القرشي

#خلف_سرحان_القرشي 

السعودية – الطائف – ص. ب 2503  الرمز البريدي 21944

ايميل:  qkhalaf2@hotmail.com

تويتر @qkhalaf

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88