إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

صدق الشعراء أم كذبوا

يعلم المطّلع على قضايا النقد العربي الكبرى أن قضية الصدق والكذب في الشعر من أهم القضايا التي اختلف فيها النقّاد والبلاغيون، حيث تباينت وجهات نظرهم وتعدّدت آراؤهم حولها، فمنهم من يُؤثِر الصدق على المبالغة والغلو والعكس.

وعندما يكون الشعر تعبيرًا عن المشاعر فهو صادق لا محالة، أما إن كان غير ذلك فهو بعيد كل البعد عن الصدق؛ لأن المتأمِّل في الأغراض الشعرية يجد أن المدح والهجاء يبالغ فيهما الشعراء أي مبالغة، ويقعون في الظلم سواءً مديحًا أو هجاءً، والسبب أنه إذا مدح الإنسان بما ليس فيه فقد ظلمه، وإذا نعته وهجاه بما ليس فيه فقد ظلمه أيضًا، ويؤكد هذا قول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عندما سُئل عن سبب وصفه لزهير بن أبي سلمى بأشعر الشعراء فقال: “لأنه يتجنب وحشي الكلام ولا يُعاظل فيه، ولم يمدح أحدًا إلا بما فيه”.

أما أصدق أغراض الشعر فهو الرثاء؛ لأن الشاعر يرثي الميت وهو لا يطمع بالجزاء ولا العطاء، وغالبًا ما يكون من أقاربه ومحبيه وأصدقائه، ومن المؤكد أن الحزن يفجِّر مشاعر الصدق لدى الشاعر، ومما أورده الجاحظ في (البيان والتبيين) أن الباهلي سأل أعرابيًا: (ما بال المراثي أجود أشعاركم؟ فقال الأعرابي: لأننا نقولها وأكبادنا تحترق).

ولعل سعة الخيال والمبالغة في الغزل والوصف مقبولة، ولا تزيد الشعر إلا إبداعًا وجمالًا، فمن حق الشاعر أن يصف محبوبته كما يراها هو كأجمل ما في الكون، وكذلك الطبيعة يصفها كما تراها عيناه، ففي هذين الغرضين يحق له ما لا يحق لغيره.

أما غرضا الفخر والحماسة فيعتمدان على قدرة الشاعر على إقناع المتلقي والتأثير فيه من خلال الاستشهاد بالوقائع ونتائجها لدفع الناس لتصديق ما يقول أو لتنفيذ ما يطلب، وإذا دخلت باب المبالغة والغلو فسيكون مصيرها الفشل، والجميع يدرك أن (المحاكاة، والتمثيل، والمجاز، والتشبيه، والاستعارة) من الأدوات التي يحتاجها الشاعر، ولكن الأهم هو طريقة توظيفها في الأغراض الشعرية، فمقولة: “أعذب الشعر أكذبه” تنطبق على غرض معين من الأغراض الشعرية مثل (الغزل) ولا تنطبق على الأغراض الأخرى، وكذلك أعذب الشعر أصدقه تنطبق على غرض (الرثاء)، فتعميم مثل هذه الأحكام على جميع الأغراض هو من الأخطاء الشائعة؛ لذلك الشاعر المحترف هو الذي يستطيع توظيف ما يناسب الأغراض الشعرية.

بقلم/ د. سلوم النفيعي

مقالات ذات صلة

‫51 تعليقات

  1. أحسنت د. سلوم –

    ودائماً نرى في سياسة الشعر أنه يجوز لشاعر مالا يجوز لغيره حتى في خياله ووصفه وثناءه وحبه لدرجة أن يمسك السماء بيديه ويهبط القاع بكل قوته –
    ورغم ذلك نستسيغه ونستمتع في قرائته –

    شرح مبين يستحق القراءة وألف ???

  2. الكذب يا صديقي لا يشين الشعر ولا ينقص من قيمته إن راعى حدودا معيّنة من القول وعدم المبالغة ، قيل لاحد الفلاسفة، فُلانٌ يَكذِبُ في شِعرِه؛ فقالَ: يُرادُ مِنَ الشاعِرِ حُسنُ الكلامِ، والصِّدقُ يُراد مِنَ الأنبياء”

    ولعلك تعلم ما حدث لصديقنا المتنبي عندما حاول ان يكون صادقاً في شعره.

    تحياتي وتقبل مروري..

  3. مقال رائع يادكتور سلوم والحقيقة استفدنا من هذا المقال اكثر من غيره من الكتب المكثفة في هذه القضية. طرحك جميل دائماً يادكتورنا الفاضل ولا عدمناك يا مبدع

  4. كما عهدناك دوماً ، موضوع جميل وأسلوب طرح أجمل ولا سيما العنوان ” صدق الشُعراء أم كذبوا !”
    عبّر عن موضوع المقال وأصبح كوسيلة جذب برّاقه تلفت انتباه القارىء وتقنعه للدخول لمعرفة التفاصيل✨.

  5. (الشاعر المحترف هو الذي يستطيع توظيف ما يناسب الأغراض الشعرية)
    يتمايز فيها الشعراء ولا يلتزم بها الكثير منهم.
    لافض فوك يا دكتور سلوم.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88