إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

هل أتعلم عن بعد؟

منذ الأزل، اقتضى التعليم الحضور المباشر في الموقف التعليمي، وكان ركنا هذا الموقف (المعلم، والمتعلم)، وعبر الحضارات الإنسانية على مر العصور تغيرت أساليب وأدوات وأنماط التعلم مع تقدم ونضج البشرية، لكن ظلت العملية التعليمية السائدة في كل زمان ومكان هي التي تتضمن مكانًا يتم فيه التعليم بشكل مباشر سواء كان هذا المكان (معبد، أو كنيسة، أو مسجد، أو مدرسة، أو ساحة، أو جامعة، أو أية مؤسسة مماثلة).

وفي هذا العصر الذي انفجرت فيه التقنية إلى درجة تحير الألباب وتدهش النفوس وصارت الدنيا جادة كونية وليست حتى قرية، فالأرض عبارة عن وحدة واحدة متصلة من التشابك والاتصال بشكل ألغى كل الحدود والمسافات.

وخلال طوفان الكورونا القائم اضطرت الوزارات التعليمية للجوء إلى أنظمة تجري فيها العمليات التعليمية كلها ضمن نظام الإنترنت، ويبقى كل في أريكته ويشرح والآخر يتعلم بلا انتقال مكاني ولا مواجهة مباشرة.

وبمعطيات كثيرة ومعايير عديدة نجحت هذه الآلية بشكل إيجابي وبجهود جبارة في القيام بهذا العمل الضخم سواء في الجامعات أو المدارس و المعاهد، وبالرغم من هذا النجاح فقد رصدت العديد من نقاط الضعف والقصور في بعض أجزاء المهام في كل مكان من العالم.

لفت نظري مؤخرًا خبر وصلني عبر تطبيق في وسائل التواصل حول بلوغ الرائعين أحفاد العلامة الجليل الشيخ الطنطاوي درجات عالية في التعليم، وحصلوا على وظائف بشكل عادي مع كون دراستهم كانت عن بعد طوال حياتهم ولم يلتحقوا بمدرسة نظامية واقعية أبدًا.

شرحوا ووالدتهم الكريمة تميز التعليم عن بعد وخلوه من نقائص التعليم العادي، وبأنه يوفر وقتًا وجهدًا وإبداعًا وتفرغًا وإقصاء للسلبيات كأصدقاء السوء مثلا.

والحقيقة.. المسألة ذات أوجه إيجابية كبيرة ولا شك، لكن في الحقيقة تجربتهم في التعليم المنزلي لا يمكن تعميمها لأسباب كثيرة ومتشعبة، أولها: أن الطفل بل والمراهق والشاب بحاجة إلى التماس الاجتماعي لنمو شخصيته مع الأقران، ناهيك عن أنه ليست كل عائلة مؤهلة لتوفير بديل تعليمي فعال، كما أن التقوقع بالدار قد يحدث فسادًا وأضرارًا أسوأ من المدرسة الواقعية وما فيها.

التجربة بديعة لكن التعليم المنزلي لايكفي و لا يجزئ في العلوم التطبيقية مثلا و الصحية و الهندسية، و حتى العلوم الإنسانية تحتاج إلى حلقات عمل تعاوني أحيانا و الي تطبيقات تستدعي المباشرة وواقعية المكان والزمان.

والإنسان كائن اجتماعي بطبعه، والمراحل التعليمية قبل الوظيفة تقتطع من عمر الفرد ثلث حياته تقريبًا وهي الفترة الأهم في تشكيل الشخصية ومميزاتها، فإن كان الشاب أو الشابة سيقضيان هذه الفترات الحرجة من طفولة إلى عنت المراهقة وبداية التحول إلى مرحلة الشباب في قوقعة البيت ومحارة العائلة لكانت النتائج فيها من السلبية ما فيها من: انحرافات نفسية، وأمراض الفصام، وعدم الثقة بالذات، وفرط الأنانية، والرهاب الاجتماعي، وعدم القدرة على التكيف والاختلاط.

ناهيك عن انعدام فرص التلاقح الفكري المباشر، بل حتى غياب دفء الأثر من المعلم كأيقونة ونموذج يحتذى؛ فهنا غابت القدوة وضاع تأثيرها القيمي والنفسي والعاطفي أيضًا.

كم من مرة سمعت فيها من طالبة، رغبة وتمني، بأن تقابلني بعد محاضرات الاستماع عن بعد ونهاية الفصل؛ هذا يدل على أهمية التواصل المباشر إنسانيا.

البشرية لن تفتأ تعمل وفق إطار إنسانيتها. وفي رأيي العقل ليس الأداة الوحيدة للتعلم والاستفادة، بل هناك الوجدان والقلب والجوارح والنفس، كل تلك تسجل خبرات ومعلومات ومنافع لا خلاف عليها.

الانخراط في دنى العالم الافتراضي لا يعني تعطيل التعلم المباشر ولا نسيان الحاجة لذلك.

وهناك آراء حالية تناقش تحويل ورقمنة بعض المواد العامة في جامعاتنا، باعتبارها مواد نظرية لا تستدعي الحضور المباشر. ومن منبري هذا أحث وبشدة على الإبقاء على أهمية التفاعل الواقعي، ومردود ذلك على الإنسان نفسيًّا وذهنيًّا وعلميًّا وثقافيًّا ودينيًّا وقيميًّا، والأخيرتان هما الأكثر حظًّا والأوفر نصيبًا في حال التعلم المباشر، وهذا يحقق الهدف الأهم من التعلم والتعليم وهو التغير نحو الأفضل والنهوض بالأمة.

نسأل الله رشدًا وفلاحًا أعظم وأكثر في مؤسساتنا وسياستنا التعليمية.

بقلم/ د. فاطمة عاشور

مقالات ذات صلة

‫3 تعليقات

  1. موضوع جميل ومناسب لظروف التعليم الحالية لكن يبقى الهدف من التعليم اكثر من مجرد نقل معلومة نظرية فالتعليم لابد أن يغرس قيم ويعدل سلوكيات ويكسب مهارات تفيد المتعلم في حياته العلمية والعملية

  2. كعادتي بك ثاقبةالرؤية، مبادرة، جديدة الأفكار، مبتدعة، ومدركة لمآلات الأمور. هل يمكن أن تعني كلمة إنسان، محب الأتس؟
    مقال مغاير، وهذه هي د. فاطمة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88