إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

سجن وتسبيح

يقول تعالى في الآية ٨٧ من سورة الأنبياء ﴿وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾.

يونس بن متّى عليه السلام، نبي كريم، بعثه الله إلى أهل قرية “نينوى”، وهي قرية من أرض الموصل، فدعاهم إلى الله، فأبوا عليه وتمادوا في كفرهم، فخرج من بين أظهرهم مغاضبًا لهم، ووعدهم بالعذاب بعد ثلاث، فلما تحققوا منه ذلك وعلموا أن النبي لا يكذب، خرجوا إلى الصحراء بأطفالهم وأنعامهم ومواشيهم، وفرقوا بين الأمهات وأولادها، ثم تضرعوا إلى الله عز وجل، وجأروا إليه، ورغت الإبل وفصلانها، وخارت البقر وأولادها، وثغت الغنم وحملانها، فرفع الله عنهم العذاب، قال الله تعالى ﴿فَلَوۡلَا كَانَتۡ قَرۡیَةٌ ءَامَنَتۡ فَنَفَعَهَاۤ إِیمَـٰنُهَاۤ إِلَّا قَوۡمَ یُونُسَ لَمَّاۤ ءَامَنُوا۟ كَشَفۡنَا عَنۡهُمۡ عَذَابَ ٱلۡخِزۡیِ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا وَمَتَّعۡنَـٰهُمۡ إِلَىٰ حِینࣲ﴾ [يونس 98].

وأما يونس عليه السلام، فإنه ذهب فركب مع قوم في سفينة فلججت بهم، وخافوا أن يغرقوا؛ فاقترعوا على رجل يلقونه من بينهم يتخففون منه، فوقعت القرعة على يونس، فأبوا أن يلقوه، ثم أعادوا القرعة فوقعت عليه أيضًا، فأبوا، ثم أعادوها فوقعت عليه أيضًا.

قال الله تعالى: ﴿ فساهم فكان من المدحضين﴾ [الصافات 141].

أي: وقعت عليه القرعة، فقام يونس عليه السلام، وتجرد من ثيابه، ثم ألقى نفسه في البحر، وقد أرسل الله سبحانه وتعالى، من البحر الأخضر -فيما قاله ابن مسعود- حوتا يشق البحار، حتى جاء فالتقم يونس حين ألقى نفسه من السفينة، فأوحى الله إلى ذلك الحوت ألا تأكل له لحمًا، ولا تهشم له عظمًا، فإن يونس ليس لك رزقًا، وإنما بطنك له يكون سجنا.

(وذا النون) يعني: صاحب الحوت.

وقوله تعالى: ﴿إذ ذهب مغاضبا﴾ أي لقومه، أي غاضبًا منهم، فظن يونس بأن لن نضيق عليه في بطن الحوت، واستشهد عليه بقوله تعالى: ﴿لِیُنفِقۡ ذُو سَعَةࣲ مِّن سَعَتِهِۦۖ وَمَن قُدِرَ عَلَیۡهِ رِزۡقُهُۥ فَلۡیُنفِقۡ مِمَّاۤ ءَاتَىٰهُ ٱللَّهُۚ لَا یُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا مَاۤ ءَاتَىٰهَاۚ سَیَجۡعَلُ ٱللَّهُ بَعۡدَ عُسۡرࣲ یُسۡرࣰا﴾  [الطلاق ٧].

وقوله تعالى:  ﴿… فَنَادَىٰ فِی ٱلظُّلُمَـٰتِ أَن لَّاۤ إِلَـٰهَ إِلَّاۤ أَنتَ سُبۡحَـٰنَكَ إِنِّی كُنتُ مِنَ ٱلظَّـٰلِمِینَ) [الأنبياء ٨٧]

قال ابن مسعود: هي ظلمة بطن الحوت، وظلمة البحر، وظلمة الليل.

وقيل: ظلمة حوت في بطن حوت في ظلمة البحر.

قال ابن مسعود وابن عباس وغيرهما: “وذلك أنه ذهب به الحوت في البحار يشقها، حتى انتهى به إلى قرار البحر، فسمع يونس تسبيح الحصى في قراره، فعند ذلك وهنالك قال: (لا إله إلا أنت سبحانك).

ثم لما صار يونس في بطن الحوت، ظن أنه قد مات، ثم حرك رجليه فلما تحركت سجد مكانه، ثم نادى: يا رب، اتخذت لك مسجدًا في موضع ما اتخذه أحد.

وقيل: مكث في بطن الحوت أربعين يومًا. رواهما ابن جبير.

وفي حديث لأبي هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لما أراد الله حبس يونس في بطن الحوت، أوحى الله إلى الحوت أن خذه، ولا تخدش لحمًا ولا تكسر عظمًا، فلما انتهى به إلى أسفل البحر، سمع يونس حسا، فقال في نفسه: ما هذا؟ فأوحى الله إليه وهو في بطن الحوت: إن هذا تسبيح دواب البحر، قال: فسبح وهو في بطن الحوت، فسمع الملائكة تسبيحه، فقالوا: يا ربنا، إنا نسمع صوتًا ضعيفًا [بأرض غريبة] قال: ذلك عبدي يونس، عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر، قالوا: العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح، قال تعالى: نعم، قال: “فشفعوا له عند ذلك، فأمر الحوت فقذفه في الساحل، كما قال الله عز وجل: (وهو سقيم) [الصافات: 145].

وسمع عن أنس بن مالك – ولا أعلم إلا أن أنسا يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يونس النبي عليه السلام، حين بدا له أن يدعو بهذه الكلمات وهو في بطن الحوت، قال: “اللهم لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين”. فأقبلت هذه الدعوة تحف بالعرش، فقالت الملائكة: يا رب.. صوت ضعيف معروف من بلاد غريبة؟ فقال: أما تعرفون ذاك؟ قالوا: لا يا رب ومن هو؟ قال: عبدي يونس، قالوا: عبدك يونس الذي لم يزل يرفع له عمل متقبل، ودعوة مجابة؟ [قال: نعم]، قالوا: يا رب، أولا ترحم ما كان يصنع في الرخاء فتنجيه من البلاء؟ قال: بلى، فأمر الحوت فطرحه في العراء.

وقوله تعالى: (فاستجبنا له ونجيناه من الغم) أي : أخرجناه من بطن الحوت، وتلك الظلمات، (وكذلك ننجي المؤمنين) أي: إذا كانوا في الشدائد ودعونا منيبين إلينا، ولا سيما إذا دعوا بهذا الدعاء في حال البلاء، فقد جاء الترغيب في الدعاء به عن سيد الأنبياء.

وعن ابن أبي وقاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “اسم الله الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى، دعوة يونس بن متى. قال قلت: يا رسول الله: هي ليونس خاصة أم لجماعة المسلمين؟ قال :هي ليونس بن متى خاصة وللمؤمنين عامة، إذا دعوا بها”.

فهل بعد هذه القصة نظل نتساءل عن الفرج؟

لم يكن سجن يونس على وجه الأرض بل كان سجنا غير مسبوق في داخل حيوان مائي ضخم وفي غياهب البحر العميق، ظلمة داخل ظلمة.

وهل هناك كرب أكبر من هذا الكرب، وخوف أشد من هذا الخوف؟

فلجأ إلى الله؛ ومن ينجينا بحق وقت لا يوجد منقذ من الأسباب المعروفة إلا هو، هو فحسب من ينقذ مأسورا من داخل ظلمات متعددة، وهذا الدعاء الذي أوله توحيد، وأوسطه تسبيح، وآخره ندم واعتراف وتوبة، فيه ما يبرهن على ذل العبد ومدى احتياجه.

لا تيأس أبدًا أيها المسلم.. مهما أطبقت عليك النوازل، فمن المؤكد أنك لم تكن يومًا سجينًا داخل حوت في عمق البحر، فمن أخرج ذلك السجين برحمته قادر على أن يفرج عنك بفضله.

بقلم/ د. فاطمة عاشور

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88