إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

وتحققت الرؤيا

وهكذا مكن الله سيدنا يوسف في أرض مصر وصار وزيرًا على خزائنها، وعُرف بعدله ورحمته، وحدث أن أجدبت الأرض وصار هناك قحط في أرض فلسطين فجاء إخوة يوسف يريدون أن يمتاروا، أي يشترون الثمار والتبضع من مصر، ودخلوا على أخيهم، وتعرف عليهم لكنهم لم يعرفوه؛ فقد كبر وصار رجلًا بالغًا، وقال لهم بأنهم عيون (جواسيس) لكنهم نفوا ذلك وأخذ يسألهم عدة أسئلة عن أبيهم وأخبروه عن حب أبيهم لأخيهم يوسف، وبأنه هلك، ومن ثم صار يفضل بنيامين أيضًا وهو أخوهم الأصغر، فطلب منهم يوسف أن يأتونه بأخيهم بنيامين، وأوفى لهم الكيل وزادهم، بل وضع ثمن البضاعة التي اشتروها في رحالهم، وقال لهم لا كيل لهم عنده إذا لم يأتوا به و تركوا أخاهم شمعون عنده كرهينة.

فذهبوا إلى أبيهم يطلبون منه أن يجعل بنيامين يرافقهم في زيارة مصر القادمة، ولكن الأب المكلوم خاف على ابنه كما كان خائفًا على يوسف وذكرهم بخوفه من أن يأكله الذئب وطلب منهم موثقًا من الله أن يرجعوه سالمًا؛ فأعطوه موثقًا من الله، وبالفعل سافروا جميعا وقد أوصاهم أبوهم يعقوب وكان ذا علم من عند الله بأن يدخلوا من أبواب متفرقة خوفًا عليهم من الحسد والعين، فقد كانوا ذوي جمال وهيئة حسنة، وأحد عشر رجلًا لأب واحد.

وبالفعل نفذوا أمر أبيهم، وما كان ذلك ليقيهم أو يعصمهم من أمر الله؛ لكنها حاجة في نفس يعقوب قضاها، وهي خوفه عليهم ليرتاح قلبه، ثم دخلوا على يوسف وأكرمهم يوسف وأسكنهم كل اثنين منهم معًا، واحتج بأن بنيامين لا شريك معه في سكنه وإقامته فضمه إليه وأسكنه معه وكشف له عن شخصيته بأنه أخوه وأن الله قد أكرم يوسف وأعطاه من النعم الشيء الكثير، ثم كان أن أوفى لهم يوسف في تجهيز بضاعتهم وأكرمهم، ثم أخفى صواعه (المكيال الذي يكال به الثمر) في رحل أخيه بنيامين، وأذن في القافلة بأن هناك سرقة وتم اتهامهم بها، وبالطبع ذُعروا من ذلك الاتهام وقالوا ما جئنا لنسرق ولم نكن سارقين، ولكن يوسف بدأ في تفتيش رحالهم وأوعيتهم واحدًا تلو الآخر، ثم استخرجها -المكيال أو الصواع- من رحل أخيه، والصواع يحتمل التأنيث والتذكير، كما أنه مصنوع من المكوك الفارسي وقيل يستخدم كآنية لسقاية الملك. وبالطبع استبقاه يوسف كعقاب له على ما قام به من سرقة، وكان هذا عقابهم بأن يستعبد ويتم أخذه عبدًا، و هكذا بقي بنيامين عند يوسف، يقول تعالى (كذلك كدنا ليوسف) فما كان ليأوي أخاه في مصر إلا بترتيب كهذا، أما أخوة يوسف فصاروا يضربون كفًّا بكف، ورفض أخوهم روبيل -الأكبر عمرا، والذي كان قد منعهم من قتل يوسف- الرجوع لفلسطين وبقي في مصر منتظرا من أبيه الإذن وخائفًا من حزن أبيه بعد أن أعطوه الموثق.

وبالفعل حين ذهبوا لأبيهم اغتمّ وحزن حزنًا شديدًا حتى مُحق سواد عينيه، وكتم ألمه في قلبه فهو كظيم، وقال صبرًا جميلًا والله المستعان على كل شيء، وطلب منهم أبيهم أن يعيدوا الكرة في محاولة تلمس أي خبر عن يوسف أو بنيامين ولا ييأسوا أبدا من فرج الله فلا ييأس سوى الكافر فقير الإيمان بالله، و عادوا ليوسف و طلبوا منه التبضع فقد مسهم الضر ومعهم دراهم قليلة وناقصة و رديئة، فقال لهم مذكرا: هل تذكرون ما فعلتم بيوسف وأخيه، إذ فرقتم بينهما وصنعتم ما صنعتم إذ أنتم جاهلون؟ يعني في حال جهلكم بعاقبة ما تفعلون بيوسف، وما إليه صائر أمره وأمركم، فقالوا إنك لأنت يوسف فاعترف لهم بأنه يوسف وبأن الله منَّ عليه برزق عظيم، فجزاء من يتقي ويصبر الخير الكثير، واعترفوا بذنبهم معه وبأن الله فضله عليهم وطلبوا منه السماح، وبالفعل سامحهم الكريم ابن الكريم وأعطاهم قميصه ليلقوه على وجه أبيه فالعلاج من ضد جنس المرض فيعقوب قد فقد بصره حزنا بسبب فقد ابنه، ولما اقتربت القافلة من ديار يوسف قال لهم إني أشم ريح يوسف؛ وستكذبونني، فسخروا منه ومن كلامه ولكن إحساس الأب صدق وكان لديه علم من الله لم يمنحه لسواه وبالفعل عاد بصيرا حين رمي القميص على وجهه واعترف أبناؤه بذنبهم الكبير وطلبوا منه المغفرة؛ وسامحهم واستغفر الله لهم وبالفعل سافروا جميعًا لمصر.

فلما دنا أخبر يوسف أنه قد دنا منه، فخرج يتلقا، قال: وركب معه أهلُ مصر وكانوا يعظمونه، فلما دنا أحدهما من صاحبه، وكان يعقوب يمشي وهو يتوكأ على رجل من ولده يقال له يهوذا، قال: فنظر يعقوب إلى الخيل والناس، فقال: يا يهوذا، هذا فرعون مصر؟ قال: لا.. هذا ابنك، فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه.. وأمه كانت قد ماتت ولكن هذه خالته أخت أمه تزوجها يعقوب بعد وفاة أم يوسف، وقال ادخلوا مصر آمنين، ورفع أبويه على العرش أي عرش الملك وخروا له جميعا منحنين ساجدين، وقيل كانت هذه تحيتهم وليس سجود عبودية بل انحناء تحية وتبجيل وتعظيم، وهكذا تحققت الرؤيا التي رآها يوسف قبل عقود. وقيل إن يوسف ألقي في الجب وعمره سبعة عشر، والتقى بأبيه بعد خمسة وثلاثين عامًا، وقيل أربعين، وقيل ثمانين، وقيل عاش معه أبوه قرابة العشرين عامًا قبل موته، وأن يوسف عاش مائة وبضع وعشرين عاما.

ثم قال: “وقد أحسن بي ربي إذ أخرجني من السجن” ولم يقل من الجب استعمالا للكرم، لئلا يذكر إخوته بصنيعهم بعد عفوه عنهم بقوله: “لا تثريب عليكم”، وجاء بهم من ديارهم من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي بإيقاع الحسد.  قال ابن عباس: أفسد ما بيني وبين إخوتي، أحال ذنبهم على الشيطان تكرما منه فجعل نزغ الشيطان هنا لهم وله جميعا وليس لهم فقط.

إن ربي لطيف لما يشاء: أي رفيق بعباده وهو العليم الحكيم، ثم في الآية التالية يناجى يوسف ربه حين تكاملت عليه النعم وجمع له الشمل اشتاق إلى لقاء ربه عز وجل. وقيل: إن يوسف لم يتمن الموت، وإنما تمنى الوفاة على الإسلام، أي إذا جاء أجلي توفني مسلما، ويلحقه بالصالحين، و هكذا كانت هذه قصة يوسف، التي أراد بها الله تسلية نبيه محمد صلى الله عليه وسلم من كفر قومه وأذاهم، وليخبره بأن ليس كل الناس سيؤمنون ولو حرص على ذلك.

قصة عظيمة نتعلم منها: معاني الأخوة، والصبر، والتقوى، والبعد عن المعاصي، و كيف يتصرف الإنسان إذا ما تم ابتلاؤه، وكيف يكافيء الله عبده المحسن، وضرب لنا يوسف أروع الأمثلة في التسامح مع إخوته حتى أنه لم يرد إيلامهم بكلمة ولم يُعيّرهم بذنبهم بعد أن سامحهم حتى كلماته كان ينتقيها حتى لا يذكرهم بصنيعهم معه. و هذا درس في عدم العودة للحقد والانتقام بعد العفو، ودرس في كيفية التحمل من أجل الرحم والقرابة، فالأخوة جبل سامق.. وللأسف كثيرون يهدونه أرضا بخلافاتهم.

في قصة يوسف بشرى لكل من يصبر ويتقي بالمكافأة الجزيلة والخير العميم في الدنيا قبل الآخرة.

بقلم/ د. فاطمة عاشور

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88