إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

فوضى القرارات

لم أعد أدري لماذا يندفع وزراؤنا وساستنا -حفظهم الله- إلى اتخاذ قرارات مصيرية في مسائل تتطلب من الرزانة والدراسة والإحاطة بالموضوع القدر الكبير، حتى أني أحيانا أعتقد أنهم يتسابقون إلى ذلك، كي يقول المتابع لشؤون البلاد: “هذوما ناس خدامين” وفي حقيقة الأمر “كل واحد يريد إظهار حنّت يديه” ولكن بالطريقة الخطأ.

جاء في إحدى إجابات وزير التعليم العالي والبحث العلمي عن أسئلة نواب البرلمان هذا الخميس “إنه يتعيّن على طلبة الدكتوراه مستقبلًا تقديم الأطروحات باللغة الإنجليزية” في حقيقة الأمر وقفت عند لفظة “مستقبلًا” هل تقصد بها يا معالي الوزير “المستقبل القريب أم البعيد” لأن في ذلك اختلاف كبير، فإن كان قصدك “المستقبل القريب” فهذا يعتمد على معطيات ورؤية عميقة لا سطحية لطبيعة تكوين طالب الدكتوراه، الذي لا يمكنك بأي حال من الأحوال أن تجبره على تقديم أطروحته بلغة لم يألفها ولم يعتد التعامل بها أصلًا، وإن كان قصدك “المستقبل البعيد” فهذا أيضًا يعتمد على إستراتيجية تكوينية بعيدة المدى تبدأ من الابتدائي إلى مرحلة التعليم الجامعي.

أن ينام قطاعك معالي الوزير نومةَ أهل الكهف، ثم تهبُّ هبّةً غير مسبوقة بغية النهوض به بقرار من هذا القَبيل، فالأمر غريب فعلًا ويفتقر للموضوعية، بالرغم من أني أثمّنه جدًّا؛ كونه خطوة جريئة للنهوض بقطاع التعليم العالي والبحث العلمي في الجزائر، الذي يشهد كبوة لا أراك الله فيها، وغطّ في سبات عميق لا يحسده عليه أحد، إلاّ أني لا ألومك شخصيًّا لأنك حديث العهد في اتخاذ قرارات مصيرية بهذا الثقل، ولكني على ثقة أنه لن يجد آذانا مصغية من طرف المعنيين بالأمر وهم طلبة الدكتوراه أنفسهم، إلا من كان واثقًا في قدرته على تقديم أطروحته بالشرط الذي تفضّلت به، وكما يقول المثل: “إن أردت أن تُطاع اطلب المستطاع” وللحديث قياس.

بعد أن تجاوزتُ لفظة “مستقبلًا” التي كنتُ توقّفت عندها وأنا أقلّب ببصري حيثيات الخبر وأبعاد القرار، وقعت عيني على ما هو أدهى وأَمَرّ، وذلك في تأكيد السيد الوزير على أنه من اليوم فصاعدًا طلبة الدكتوراه “مُجبرون” على تقديم أطروحاتهم باللغة الإنجليزية!! يا رجل هداك الله.. وأنّى لهم هذا؟ كيف يكون والجميع يعلم واقع الجامعة الجزائرية البائس منذ فترة طويلة؟ كيف يكون هذا ونحن نعلم أن الكثير من طلبة الدكتوراه لا يتقنون حتّى لغتهم الأم نطقًا وكتابة -وهي اللغة العربية-، ولا يتحكمون فيها تحكمًا كليًّا؟ كيف يكون هذا ونحن نعلم أيضا أن دكاترة بما تحمله الكلمة من معنى في تخصصات مختلفة لا يتحكمون في اللغة الإنجليزية تمامًا بل لا يتحكمون حتى في اللغة العربية ذاتها حتى أكون في منتهى الصراحة؟ وما أنا بلائم في هذا أحدا، لأني أعلم أيضًا أن التكوين كان باللغة الفرنسية لمعطيات وظروف تاريخية، الجميع يعلمها ولن أخوض فيها. كيف يكون هذا يا معالي الوزير وبعض التخصصات لا تحتاج إلى تقديمها باللغة الإنجليزية؟

وهنا أفتح قوسًا أتمنى أن لا يكون طويلًا عريضًا.. لأقول: كان بإمكانك وأنت مصر على تنفيذ هذا القرار وهو الظاهر من خلال حديثك الذي نقلته وسائل الإعلام على اختلافها، أن تحدد -بادئ الأمر- تخصصات بعينها، أولها تلك التي تعتمد اللغة الإنجليزية في عملية التكوين، وثانيها تلك التي ستعتمد عليها الدولة في تطوير منظومتها الصحية والصناعية، حتى يصبح لديها الطابع العالمي كما قلت “وهذا قصد تطوير البحث العلمي وإعطاء الطابع العالمي للأطروحات” بحجة أن المشكل لا يكمن في محتوى الأطروحات الجزائرية، وإنما في اللغة” مع أني أؤكد على أن اللغة العربية أبدا ما كانت في يوم من الأيام عثرة أمام التقدم العلمي في شتى العلوم والتخصصات، والدليل هو تلك الدول التي تدرّس التخصصات العلمية والطبية باللغة العربية ولكل فرد حرية البحث والتأكد من الأمر.

أعلم جيدًّا معالي الوزير، كما يعلم غيري من المتبصرين، أن المصيبة التي تمرّ بها الجزائر جرّاء جائحة كورونا التي لا زالت تحصد الأرواح بشكل يومي، كانت كالصفعة المدوية للنائم، فاستفاق على دَويِّها كالقائم من كابوس مرعب أخافه وأرعبه، وفي ذات الوقت جعله يدرك حقيقة نفسه، وأنه في آخر الرّكب بل يتذيَّلُه. وأعود هنا لكلام السيد الرئيس لما قال في آخر خرجاته لوسائل الإعلام: “لم نصل إلى تصنيع ثلاجة أو تلفاز بشكل كامل” هذه الجملة لوحدها تكفي لتوقظ العقل الجزائري داخلنا؛ وتجعلنا كما يقال بالعامية (نديرو نيف).

فجاءت ردّة فعلك واضحة، متمثلة في هذا القرار، كترجمة لحقيقة البحث العلمي المتدني لدينا، وترجمة صريحة لصفعة “كورونا” المؤلمة لواقع الجامعة الجزائرية المنهار جدارها والمنهك حرمها، والتي لم يكن لها أي أثر على الحياة الإجتماعية لسنوات وسنوات، وكأني بها تسير في وادي وحياة المجتمع وتطوره في وادٍ آخر تمامًا، مع العلم أن الدور المنوط بالجامعة ومراكز البحث العلمية لا يستهان به البتة، بل هي العمود الفقري للنهضة والتميز وفرض الذات بين الأمم بفضل ما تخرجه من عقول مثمرة ومنتجة، بعيدًا عن سياسة الريع الفاشلة التي أدخلتنا في دهاليز الاستيراد؛ حتى أصاب العقل الجزائري الخمول، إلا من رحم الله واختار الفرار إلى جهة تؤمن بوظيفة الجامعة ومهمتها، فشكرًا كورونا لأنك صفعتنا فأيقظتنا.

لا نريد ونحن في مسيرة الارتقاء ومحاولة الصعود واسترجاع مكانة الجامعة الجزائرية التي كانت منارة علم في عهد مضى، أن “ندوس” معالي الوزير على مكوناتنا ورموزنا المقدّسة فنصبح كالذي أراد أن يتعلّم مشية غيره فأضاع مشيَتَهُ، فلا هو بمشيَتِهِ المعتادة ولا هو بالمشية التي أراد تقليدها.. ولله في وزرائنا شؤون.

الكاتب الجزائري/ طارق ثابت

مقالات ذات صلة

‫71 تعليقات

  1. أن ينام قطاعك معالي الوزير نومةَ أهل الكهف، ثم تهبُّ هبّةً غير مسبوقة بغية النهوض به بقرار من هذا القَبيل

  2. لا نريد ونحن في مسيرة الارتقاء ومحاولة الصعود واسترجاع مكانة الجامعة الجزائرية

  3. كالذي أراد أن يتعلّم مشية غيره فأضاع مشيَتَهُ، فلا هو بمشيَتِهِ المعتادة ولا هو بالمشية التي أراد تقليدها.. ولله في وزرائن

  4. شكرا جزيلا لجميع اخواني و أخواتي الذين يمنحون مقالاتي جزءا من وقتهم الثمين ليطالعوها و يشاركونني الرأي .
    فقط بالنسبة لإخواني الذين لا يتفقون معي في الطرح بودي أن يوضحوا وجهة نظرهم المخالفة لوجهة نظري .هكذا حتى نستفيد جميعا بالرأي و الرأي الآخر .مع العلم أن ما اتناوله يتعلق بالشأن الجزائري ولست أعمم على كامل الأقطار العربية .لذلك يا ريت أنكم توضحوا وجهة نظركم المخالفة لوجهة نظري .ولا تكتفوا بكلمة لا أتفق معك وفقط.
    مشكورين إخواني و رمضان كريم

  5. سطورك احساس وحروفك أنفاس
    أسرني نزفك وأطربني عزفك
    نبضات حروفك بعثرت مشاعري
    واصلو ابداعكم هناا

  6. يا لها من كلمات
    عانقت الروعة و لامست الجمال
    عندما يتم اختزال أكبر كم من المشاعر
    و طيه بين الحروف
    فهذا هو الإبداع

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88