شهريار.. الحلقة (1)
إنَّ ما وقع لي من أحداثٍ في تلك الليلة كان من أغرب ما مرَّ عليَّ طيلة عمري الذي يناهز الستين عامًا. انتابني أرقٌ غيرُ معهودٍ. ودَّعت فراشي الوثير. استقللت سيارتي، فتحت النوافذ أبحث عن شيء من الأكسجين لعلَّه يرخي قليلًا من التوتر الذي تملك جسدي ونفسي. وجهت راحلتي سيارتي (اليوكون) صوب منطقةٍ جبليةٍ كانت أمِّي -رحمها الله- تقول لي عندما كنت طفلًا إنَّها مسكونةٌ من قبل “بسم الله الرحمن الرحيم،” متعمدةً عدم ذكرهم بالاسم.
ثمّة أنخت راحلتي، غصت في الظلام، روائح الليل البهيم تعبق بالمكان. هبوب الريح وأصوات صراصير الليل وبعض الحشرات تكسر بين حينٍ وآخر حدّة الصمت. فجأةً لمع في عينيَّ ضوء ليس عني ببعيدٍ، يتحرك رويدًا رويدًا مقبلًا نحوي؛ تملكني بعض خوفٍ؛ ذكرت اسم الله ثلاثًا، حرَّجت عليه إن كان من الجن أن يذهب في سبيله ويدعني في حالي. حلَّت عليَّ فجأة سكينةٌ غير متوقعةٌ بعدها. ظلَّ الضوء يقترب مني شيئًا فشيئًا.. ويا لدهشتي.. قمقمٌ على بعد مترين أو ثلاثة من قدميِّ ينفتح عن ماردٍ صغيرٍ يقول لي: “شبيك لبيك! يا عاشق الحكايا، وَمُرِيد القصص، عبدك بين إيديك!”.
تذكرت أنّي، قبل أن تنتابني حالة الأرق، كنت مستغرقًا في التفكير في حكايات ألف ليلةٍ وليلةٍ، عن شهرزاد وشهريار، وكنت أتساءل متأملًا في السبب الذي حال بين شهريار وبين أن يتحدث مع شهرزاد طيلة الألف ليلةٍ وليلةٍ.
وخوفًا من أن يغادرني المارد دونما استثمارٍ، نسيت بالكليّة حاجتي الشديدة إلى عشرين ألف ريالٍ متأخرات إيجار يطالبني به (معتوق) صاحب الشقَّة التي كنت أسكن بها، وغاب عني أنَّ جوالي مكسورٌ لم يعد يجدي معه ترميم محلات الصيانة البائسة ولا ينفع فيه الترقيع والدمدمة، ولا بدَّ ممَّا لا بدَّ منه أن استبدل به جوالًا جديدًا.
فاتني تذكر أمورٍ كثيرةٍ كان بوسعي أن أطلب من المارد تحقيقها لي، الحصول على إجابة لسؤالي المتعلق بشهريار هي كلُّ ما شغل بالي حينها. قلت للمارد:
– آتني بـشهريار.
شهريار ما غيره.. صاحب شهرزاد؟
– نعم.
أمرك سيدي.
غادرني المارد صاعدًا نحو السماء، تارةً أراه يتجه يمنةً، وتارةً يسرةً حتى غاب عن مجال رؤيتي. مرَّت ساعةٌ كاملةٌ وأنا انتظر عودته غير أنَّ شيئًا من ذلك لم يحدث؛ شككت في قواي العقليَّة، بدا لي لوهلةٍ أنَّني في حلمٍ ليس إلِّا. نظرت إلى سيارتي، والجبل المحيط بي، أمعنت النظر.. كل ما حولي حقيقةٌ.
وبينما أنا في حالة الارتباك والاضطراب تلك، أبصرت في أعالي السماء ضوءًا يقترب من الأرض رويدًا رويدًا، انتابني فزعٌ من أن يكون شهابًا رصدًا قد يقع عليَّ ويحرقني مثل ما يحدث مع الشياطين التي تسترق السمع من السماء.
بدَّد خوفي أنَّ ذلك الضوء حطَّ على بعد أمتارٍ مني، وكان أشبه ما يكون بمظلَّةٍ ممسك بها المارد الذي كان هو الآخر ممسكًا بيد مخلوقٍ أسطوريٍّ لم أر في حياتي مثله قط. وابتدرني المارد قائلًا:
“سيدي، هذا شهريار بشحمه ولحمه بين يديك.. أستأذنك الآن لتأخذا راحتكما في الحديث، ومتى ما انتهيت من التحدث معه، ادْعُنِي آتِك سعيًا”. شكرته، وودَّعته بقولي: “في أمان الله، أيُّها المارد الحصيف”.
بقي شهريار متسمرًا في مكانه لا يكاد يرمش له جفنٌ أو يتحرك منه طرفٌ. بدا لي أنَّه خائفٌ ومخيفٌ في الوقت نفسه؛ حاولت أن أكسر جليد الموقف، فقلت له مبتسمًا:
– حيَّا الله أبا الشهارير الملك المهاب.
رأيت في وجهه شرًّا وشررًا.. فاجأني بقوله:
* تَبًّا لك.. لا تتظارف معي، يا فتى. ادخل في الموضوع مباشرةً، ماذا تريد مني؟ ليس لديّ كثير وقتٍ أضيعه معك، عندي ما يشغلني.
– آسف جدًا سيدي.. المعذرة والسموحة. كنت أظن أنَّ في وقت جلالتكم متسعًا لمقابلة مواطنٍ مثقفٍ يحمل همَّ رسالة المثقف النخبوي في تنمية الوعي لأفراد مجتمعه لما فيه خيرهم معرفيًّا وسلوكيًا، حاضرًا ومستقبلًا.
* دع عنك حذلقات المثقفين الكريهة هذه، وابدأ في الموضوع مباشرةً وبلا قِفْنَبْكيّات القصيدة الجاهلية.
– سيدي، لماذا أنت مستعجلٌ هكذا؟ الله يهديك. الليل ما يزال طفلًا كما يقول المثل الإنجليزي.
* ما شاء الله، تعرف إنجليزي أيضًا.. عليك اللعنة!
– لماذا تلعنني، ماذا فعلت لك؟
* تنزلني من فوق عرشي في كوكبي البهيِّ بواسطة ذلك المارد اللعين، وتقول لي: ماذا فعلت بي، ألا تعلم كم هي مكلفةٌ عملية الهبوط من كوكبٍ عَلِيٍّ إلى كوكبكم المقرف هذا المكتنز بطاقاتٍ سلبيِّة بسبب شروركم وحروبكم وجهلكم وفقركم وأمراضكم المختلفة. ألم تعرف أنَّ للهبوط ضريبةٌ عظيمةٌ منذ أُمِر به أبينا أدم وحتى تقوم الساعة.
– لا والله.. لا أعلم، آسف جدًا. أقسم لك بالله لن أكررها أبدًا.
* لن تكررها غصبًا عنك، وليس اختيارًا منك. قسمًا بالله العزيز لو فكرت مجرد تفكيرٍ مستقبلًا في تكرارها لأجعلن حياتك هبابًا، وأيامك سوداء، ولياليك علقمًا. والآن قل لي، ماذا تريد.. عَجِّلْ، عَجَّلَ الله يومك.
الغريب أنه يقول بعض الكلمات باللكنة المصرية!
بلغ بي الخوف مبلغه حتى كدت أنسى لماذا فكرت في طلبه أصلًا، وماذا أريد منه حقًّا. بعد ثوانٍ ألهمني الله تذكر أنَّني طلبته من أجل أسئلةٍ إبداعيّةٍ تتعلق بحكاياته الغرائبية مع شهرزاد. وقلت له:
– أردت أن أسأل فخامتكم عن شهرزاد. لماذا لم تتحدث معها طيلة الألف ليلةٍ وليلةٍ، لماذا اكتفيت بدور المستمع المُنْصِتِ فقط. كلُّ ما كنت تقوله لها أن تستمر في سرد الحكايات.
ما إن سمع سؤالي حتى انتفخت أوداجه، واحمرت وجنتاه، واتجه نحوي كأنَّه يريد أن يقبض روحي.
—————————————————–
إلى اللقاء في حلقات قادمة بمشيئة الله تعالى.
الكاتب والمترجم/ خلف بن سرحان القرشي
#خلف_سرحان_القرشي
السعودية – الطائف – ص. ب 2503 الرمز البريدي 21944
ايميل: [email protected]
تويتر @qkhalaf
جميل ما كتبت يمينك أستاذي الكريم وجميل أسلوبك الذي تتعامل به معنا على مبدأ الإثارة والتشويق ثم التوقف والإنتظار حتى تتكرم علينا وتفرج عن الحلقة القادمة…
شكراً للموضوع الجميل الذي إخترت وللأسلوب المميز الذي كتبت…
الى اللقاء في حلقة أكثر تشويقاً…
? ? ? ? ? ?
قصة جميلة وسرد الكاتب لها أجمل حيث تم سردها بطريقة جذابة للقاري وفقك الله أبا سعد
مبدع كالعادة كاتبنا القدير في جذب القارئ بقصص تبدوا وكأنها من نسج الخيال وربطها بايدولوجيات الحياه لك شكري وتقديري يا أبا سعد
أمرك غريب أيها المبدع… !! لماذا لم تطلب شهر زاد بعينها، وقد وافتك الفرصة في حينها ؟ فقد كنت أحوج ماتكون الي الرقة والمآنسة منك إلى الملاحة والمناكفة.
سرد للقصة بطريقة جدابة وممتعة والأجمل من ذلك ربط الخيال بالواقع
مقال جميل خفيف الظل وفقك الله وسدد قلمك
سرد جميل وتقديم مبدع وانامل سحريه تجعل القاري يعيش القصه بحق وحقيقه الله لايحرمنا منك ابو سعد
احمد الشهري
تعايشنا مع القصه وسرحنا بالخيال مع المبدع سعد
سرد جميل وخفيف يتطرق للذهن ويستدعي الاسترسال
تعايشنا مع القصه وسرحنا بالخيال مع المبدع خلف بن سرحان
سرد جميل وخفيف يتطرق للذهن ويستدعي الاسترسال
سلمت يداك
موفقين
يسلموا
عمل رائع
جهد مشكور
جميل جدا
احسنت
زادك الله خيرا
هل هناك حلقات أخرى
موفق دوما
جميل نحن في انتظار باقي الحلقات
ممتاز وفقك الله
قصة جد مشوقة
احداث رائعة و سرد أروع
ممتاز ننتظر ابداعك الجديد
بالتوفيق في السرد التالي
من اجل القصص التي قرائتها ممتاز
كلام راقي
ترجمة معبرة
و من لا يعرف شهرين و شهرزاد
قصة ممتعة
خيال مبدع
قصة رائعة
ماشاء الله عليك ،قصة ممتازة
احب هذه القصة جدا
احسنت
قصة تستحق القراءة
يعطيك ألف ألف عافية
انتظر الجزء الثاني
لقد كتبت و أبدعت
جد رائع
من كل قلبي أشكرك على قصتك المتميز
دائما تبهرونا بمواضيعكم التي تفوح منها عطر الابداع و التميز
دمتم بهذا العطاء المستمر
موضوع في قمة الروعه
سطرت لنا أجمل معانى الكلام
ماأجمل تلك المشاعر التى
خطها لنا قلمك الجميل هنا
لقد كتبت وأبدعت
كم كانت كلماتك رائعه فى معانيها
دائمآ فى صعود للقمه
فن وإبداع متقن
تقبل مرورى وشكرى
مواضيعك سهل على القلوب هضمها
أبدعت أبا سعد : أنا أتفق مع أبي معن ، وعليك بالغياطلة لتنهي ورطتك
لأزيلن عنك استغرابك وأخبرك لم كان يحدثك باللهجة المصرية . ولكن عندما نلتقي . بوركت أديبنا المبدع .
ومازل شهر يار يبحث عن شبع عقله وفكره بتلك الرواية حتى يداهمه النعاس فينام وتنتهي الحكاية مع اول نعسة ويستمر الحال كما هو عليه وعقله وفكره يبحث عن تلك الحكاية ليجد راحة نفسية فيداهمه النعاس
“* دع عنك حذلقات المثقفين الكريهة هذه، وابدأ في الموضوع مباشرةً وبلا قِفْنَبْكيّات القصيدة الجاهلية.”?
بقيت الصورة الذهنية لدينا أن شهريار جبار عنيف حاد المزاج وصعب المراس.
رائع هذا التخيل والدخول في حوار مع شخصية خيالية.