زوايا وأقلاممشاركات وكتابات

لغة المكان.. ستاربكس نموذجًا

إذا كان الفراغ في مقعد الجلوس يعد مكانًا لراغب الجلوس، فإن هذا الفراغ الهندسي مشبع بثقافة وصفات (تلحق بالمكان) هي طبيعة الشكل الهندسي للمقعد، وراحة المقعد، والمناخ المحيط، ومكان المقعد بالنسبة للموقع العام.. بمعنى تداخل الأماكن واتساقها مع المناخ والبيئة.

وإن كان المكان وجودٌ مجرد في العقل، أخَذَ صورة هندسية في قالب الوجود، أي أننا نرى المكان فراغ الوجود المنظور المؤطر بحدود الموجودات التي حددناها سلفًا.. إذا كان المكان هو هذا الفراغ، فإن وجود الإنسان العامل في فريق لمنظمة أو مؤسسة، يحكي لنا هذا الجهد المؤسسي للعمل لغة هذا المكان وفلسفته ونظام التبادلات فيه، بل وثقافة المكان ودلالات المعنى التي تملأ الفراغ.

بعد هذه المقدمة التجريدية الثقيلة، آخذكم في رحلة قصيرة نقرأ فيها لغة المكان، لتجربةٍ ونموذج، هو سلسلة مقاهي ستاربكس الأمريكية، ذات الانتشار الواسع والعلامة السوقية الأكثر انتشارًا. تجربة ولغة للمكان هي درس أنيق وشائق، يعبر عن ثقافة تجعل المكان فكرةً وجهدًا وزمنًا، تملكه ولا يملكك. (ليس رغبة في الثناء بل قراءة للمكان وحسب).

دعوني أزعم أن بنية المكان (أي مكان) هي ثلاثية: جملة الموجودات، نسق الموجودات وانتظامها، حدود ووحدة الموجودات.. هذه بنية تشكل المكان القابعة خلف نشأته كما أرى.

ولمزيد بيان لهذه الثلاثية فإن المكان بطبيعته يحتوي موجودات هي: الإنسان وباقي الأشياء (المعبرة عن فكرتها واستخدامها).. أما النسق فهو دلالة للمعني تتشكل نتيجة الانتظام والتنسيق للموجودات في محيط معلوم الحدود، أما حدود ووحدة المكان فهي كلية وجود الموجودات بعد اتساقها في حدود معلومة بقالب يؤطر المكان الموحد نعرفه بما بعده وما قبله أو بحدود الاتجاهات.

ينتظم مقهى ستاربكس كمكان جاذب حُر، بداية، في نسق تنظيمي (يجعل لكل شيء معنى جديدًا) ناظم للموجودات، أولها الإنسان العارف.

في ستاربكس يباع كل شيء، حتى الإنسان.. ولكن في قالب مكاني ماتع آمن نافع.. هذه الثلاثية (المتعة، والأمان، والنفع) هي الجذر الفكري لثلاثية (الموجودات، النسق، الوحدة أو الإطار). وحتى نفهم دلالات التعقيد والتركيب داخل هذه المنشأة ذات البصمة والعلامة التجارية الرائدة سأبدأ بشرح تفصيلي لصناعة الخدمة المقدمة وفق تداخل أبعاد الجوهر (الموجودات كأفكار، النسق، الوحدة الناظمة)، في أبعاد المظهر (النفع، الأمن، المتعة) كما يلي:

1- تصنع ستاربكس فكرتها الوجودية للمكان في خليط من منتجات ذات حد أدنى من تفوق متعة الطعم، وأمان المحتوى، والأثر الصحي، وطبيعية المادة المشروبة في أصل مصدرها. خليط تنافسي فاق التقليد وأعجزه، ليس هذا وحسب بل في انتظام الخدمة وشموخها تدفع المبلغ ثم تأخد طلبك في نسق الترقيم التسلسلي، ثم تركيب المنتج تحت بصرك ليصل في دقائق محسوبة وفق نداء الترقيم وأسلوب الاستلام ومظهره الممتلئ ثقة وتفوقًا ناعمًا رقيقًا.

2- فراغ الدخول والجلوس منتظم وفق تداخل أنساق متعة التنظيم والألوان، وأمان المقعد والتكييف، وتعدد منافع الراحة حسب طول فترة الجلوس أو استعجاله، وحسب فردية الزبون وتعدد الرفاق.

3- ستاربكس ككينونة ومناخ وبيئة وثقافة بمجرد أن تدخله ليس هو مقر لشركة بل هو خصوصيتك المكانية، كل شيء يعمل لك ولصالحك، حتى العاملون مجرد مقدمي خدمة لطيفون، ليس من مهامهم مراقبتك أو توجيهك أو تحديد زمن بقائك أو حتى متابعة النظر لوجودك. خدمتك تحصل عليها بنفسك لتتوجه كيف تشاء داخل نسق تنظيمي تختار حركتك ونواتها، وتوابع مذاقك، وزمن البقاء، وتتابع المطلوبات وحرية امتلاك المكان والإمكان.

4- ليس تفوق طبيعة المنتجات وحده لافت، وليس انتظام الموجودات والمنتجات في نسق تنظيمي ماتع وسهل، بل إن التفوق الأجمل هو الوحدة والإطار الجامع لهذه الموجودات والنسق التنظيمي في وحدة وغاية جامعة معناها ودليلها أن المكان لخدمتك وراحتك ومتعتك، وهو ملك يدك تتشكل فيه وتشكله لأجلك.

كل هذا ليس مدائحية مقصودة لكنها درس في المكان لم نفلح في توطينه أو ابتكاره، لأن فكرة لك ولأجلك لم تتوطن كغاية تضع لحرية الإنسان في المكان دليلها وتدللها.

بقلم/ سالم بن عبد الله القرشي

مقالات ذات صلة

‫100 تعليقات

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88