إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

نفق في غياهب النفس

نفق وُلِد من رحم حرب الصرب الغاشمين على مسلمي البوسنة، وتم حفره أسفل بيت إحدى سيدات (سراييفو) ليكون الشريان الذي يمد المدينة التي عُزلت وحوصرت وعُذبت لسنوات بالحياة والبقاء.

تلك قصة قرأتها مؤخرًا عن تلك المدينة التي شهدت إبادة جماعية، وتنكيلًا بالإنسانية تنفطر له قلوب البشر.

وكلما تأملت وسافر فكري عبر الخيال.. أتساءل بحرقة، ما فائدة الحروب؟ وكيف يقوم إنسان لديه بقية من نهى،، وقليل من إحساس بإخماد نفس أحدهم، ويكون سببًا لإطفاء جذوة حياته؟!.

هؤلاء.. ألا يأرقون؟! وإذا أرِقوا.. ألا يتذكرون وعلى ما جنته أيديهم يبكون؟! وإذا بكوا ألا يندمون ويتوبون؟!

أي نوع من الجلود يغلف أجسامهم؟! حتى بات الحس لديهم معطلًّا، أم أنه وكما يشاع بأن القاتل يبكي أول مرة ثم تكر المسبحة ويتبلد حسه ويموت قلبه، لعل ما اكتسبوا ران على قلوبهم كما وصف كتاب الله.

سرحت بفكري وتخيلت مئات المشاهد لأناس يرتادون ذلك النفق.. فهذا جريح يرجى لحاقه قبل الموت، وذلك مريض بيتغى علاجه، وتلك امرأة حامل لم يمهلها وليدها لتصل لنهاية النفق فاندفع رغمًا عنها منزلقًا في أخدود الهروب من جرم الإنسانية، فصرخ صرخته الأولى لا ترحيبًا بهواء شق صدره بل احتجاجًا على غدر البشرية.

كم من أُسر تشردت، وعوائل تفرقت، وأبناء فقدوا الهوية والانتماء! كم من عين جحظت رعبًا من صخرة ثقيلة جراء قذيفة ضغطت على رئة هارب فتحول كومة من لحم وعظم، ورحل وبقت عيناه مفتوحتان تؤرخان طغيان الطغاة وفجور الفجار.

كم من عيون من دماء روت جنبات ذلك النفق واختلطت بها دموع الفارين والبائسين!.

وبالمقابل كم من ابتسامة رائعة أشرقت على قسمات أحدهم حين وصل إلى بقعة ضوء الشمس في آخر الأخدود!.

ليس من جرم أبشع من أن يضطر الإنسان أن يستبدل دفء الشمس بظلمة النفق.

تلك أنفاق الحرب التي تحفر تحت سطح الأرض، لكن قياسًا هناك أنفاق أخرى تحفر في غياهب نفوسنا دون أن نعلم وأحيانا بعلم منا ودراية.

فاليأس، والهم، والكآبة، والتخاذل، والسلبية، والحقد، والحسد، والخيبة، والإحباط، والكرْه، والشر، الظلم، كل ذلك يشكل ما يشبه الجيش الصربي الغاشم الذي اضطر المهددين بحفر نفق باطني للنجاة والحياة، ولا يدرون حافروا نفق النفس بأن ذلك النفق قد يعرضه للويلات والدمار النفسي؛ فنجد كثيرين قد تحولت طموحاتهم وأحلامهم وأمنياتهم إذا لم تتحقق إلى أخاديد تشرخ استقرار النفس؛ يدفن فيها المحبط آلام يأسه وانهزامه، فما يلبث أن تموت كل الآمال وتبقى الآلام حية في سجن نفق مظلم تؤرق صاحبها بدل أن تريحه.

وكم من ظالم ظلم سواه بمعاملات، أو تصرفات، أو أقوال، أو أذى من سحر أو حسد أو وشاية أو قذف أو سوء؛ يُدخلون الناس أنفاقًا من عذاب، ويكررون ممارسة الشر يومًا بعد يوم، حيث تشكلت لديهم ذات بلادة القاتل المرتزق، وهم أنفسهم مسجونون في معتقلات وأنفاق من الشر، والحقد، والبغي، داخل نفوسهم المريضة وضمائرهم النافقة.

احذر أن يسجنك أحدهم في نفق أو تكون سجانك في داخل نفسك فيتحول ذاك النفق إلى لحد ت.ُدفَن فيه، ولا عزاء لموتى الأخاديد.

ابتسم.. تجاوز.. توكل.. تهيّأ.. إن سقطت قم قفزًا، وإن قيدت لا تستسلم فالقيد لا يحبس سوى المتخاذلين.

وهـج:-

سأبقى واقفًا ما دمت حيًّا

ولن تحنيني قسوة الأيام

ويبقى معصمي بالقيد فيا

يظلل هامتي والله حامي

لا أبغين على الخلق شيا

ولا أحفر الأنفاق بالأسقام

بقلم/ د. فاطمة عاشور

مقالات ذات صلة

‫91 تعليقات

  1. هؤلاء.. ألا يأرقون؟! وإذا أرِقوا.. ألا يتذكرون وعلى ما جنته أيديهم يبكون؟! وإذا بكوا ألا يندمون ويتوبون؟!

  2. لكن قياسًا هناك أنفاق أخرى تحفر في غياهب نفوسنا دون أن نعلم وأحيانا بعلم منا ودراية.

  3. سأبقى واقفًا ما دمت حيًّا

    ولن تحنيني قسوة الأيام

    ويبقى معصمي بالقيد فيا

    يظلل هامتي والله حامي

  4. أتساءل بحرقة، ما فائدة الحروب؟ وكيف يقوم إنسان لديه بقية من نهى،، وقليل من إحساس بإخماد نفس أحدهم، ويكون سببًا لإطفاء جذوة حياته؟!

  5. ابتسم.. تجاوز.. توكل.. تهيّأ.. إن سقطت قم قفزًا، وإن قيدت لا تستسلم فالقيد لا يحبس سوى المتخاذلين.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88