إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

وسائل التواصل الاجتماعي.. حوارٌ أم ضجيجٌ؟

كم هي محزنة حقيقة أن معظمنا يقضي وقتًا طويلًا من حياته في التواصل مع الآخرين، سواءً كان ذلك في محادثاتٍ مباشرة وجها لوجه، أو من خلال الهواتف، أو في اجتماعات المؤتمرات واللجان المختلفة، وكذلك عبر البريد الإلكتروني، وشبكات التواصل الاجتماعيِ، ورغم ذلك نبدو أكثر عزلة وانفصالًا عن بعضنا البعض أكثر من أيِّ وقت مضى.

تكمن المشكلة في أنَّ الكثير من جوانب التواصل اليومي التي تمر عبر الإنترنت ليست إلا أحاديث متقطعة، وإن شئت الدِّقة فهي ضجيجٌ، وليست حوارًا.

في الحقيقة إن جُلَّ ما نفعله هو أننا نضخ عبر الشبكة العالمية وابلًا من المعلومات، أو يُصَوِّبُ كلٌ منا على الآخر كمًّا من الرسائل النصيَّة، أو نُدَوِّنُ أو نغرد عن أنفسنا فحسب. ولكن هل ثمَّة من يعير انتباهًا؟ وإن افترضنا وجود أحدٍ.. فهل بوسعه فهمنا؟

لقد غدا الفهم الصحيح هو الاستثناء، وليس القاعدة في التواصل اليومي فيما بين الناس.

إنَّنا نتكلم على بعضنا البعض عوضًا عن أن يتحدث كلٌّ منا مع الآخر، ويتجاوز كلٌّ منا عن طرح من يحاوره، أضف إلى ذلك أنَّ تواصلنا ينطوي على مفهومياتٍ مختلفةٍ، كما أننا نحمل قيمًا متباينة، ونجسِّد طرقًا مغايرةً لرؤية العالم. والحقيقة، ففي معظم الأوقات لا يستمع أيُّ منا إلى الآخر. نعم! لم يعد الحديث بيننا حوارًا (dialogue)، وإنَّما حديث نفس (monologue).

تعكس الأحاديث الصاخبة في وسائل التواصل الاجتماعي حقيقة أنَّنا لا نعرف كيف نشارك بعضنا البعض في محادثاتٍ أصيلة، إنَّنا ببساطةٍ لم نتعلم مهارات الاستماع عن كثب، ولا كيفية الانخراط في تبادل مفيد، أو إيجاد أرضيَّات ومصادر مشتركة للمعنى.

كم نفتقر إلى الدرايَّة والأدوات؟!

إنَّنا بحاجةٍ ماسَّةٍ -ونحن ننطلق إلى عصر يتسم بالتغييرات المتسارعة، وتعمق الشكوكية- لأن نكون أكثر ذكاءً وفطنةً بالآلية التي يتحدث بها كلٌّ منا إلى صاحبه. زد على ذلك أنَّنا بحاجةٍ أيضًا إلى تجاوز الاختلافات، وإيجاد الأرضيَّة المشتركة، والقيام سويةً بتشكيل المعنى وبناء المغزى، ورسم المسارات يدًا بيدٍ.

وعلينا أن نكون قادرين على التفكير سويةً؛ مجموعاتٍ، وفرقٍ ولجانٍ، ومجتمعاتٍ، وحتى أفراد.

والطريقة التي يتم بها كلُّ ذلك هي من خلال التحاور. إنَّ كلمة (حوار) هي في الغالب ضد كلمة (منولوج/ حديث نفس)، وكأنَّها تعني السير في اتجاهٍ ثنائي وليس أحاديًّا. ولكن هذا أمرٌ مضللٌ؛ لأن كلمة حوار -في الإنجليزية- مشتقة أصلًا من اللغة الإغريقية، ودلالتها هناك تقتضي نوعًا من الجهد هدفه استدعاء المعنى.

وقد لا يكون الإغريق هم أول من اخترع الحوار، ولكنَّهم أصحاب فكرة أنَّ الأفراد ليسوا أذكياءً في ذواتهم، وأنّه فقط من خلال التفكير مع الآخرين، والاستنتاج من الوقائع والمقدمات بوسعهم معرفة الحقيقة بأنفسهم.

لقد أدرك الإغريق أنَّه إذا كان ثمَّة شخصان أو أكثر غير متأكدَّين من مسألةٍ ما فإنَّهم سويةً يستطيعون حيالها إنجاز شئٍ ما؛ لا يمكنهم إنجازه بصفة فرديّة، فمن خلال استجواب وسبر أغوار كلٍّ منهم للآخر، وكذلك من خلال الشرح بعنايةٍ، والتحليل للأفكار، وإيجاد التناقضات -دونما مهاجمةٍ أو إهانةٍ لأيٍّ منهم البتَّة- بل بالبحث عمَّا يكون مقبولًا بينهم؛ فإنهم بالتدريج يحرزون فهمًا أعمق، ويصلون لبصيرةٍ نافذةٍ في القضايا المطروحة للنقاش.

ذلك هو الحوار: نوعٌ من النقاش يهدف إلى تعزيز فهمٍ متبادلٍ، وتحقيق أغراض عامَّة. والعملية تستلزم الاستماع بعاطفةٍ وتجاوب، والبحث عن مساحة مشتركة، واستكشاف أفكارٍ ورؤى جديدةٍ، وإبراز الافتراضات غير المدروسة لتصبح ظاهرة للعيان.

وعندما يُنْجَزُ ذلك بشكلٍ متقنٍ؛ فالمنافع المتحققة تكون استثنائيةً؛ والقوالب النمطيَّة التي طال أمدُّها يمكن حلُّها، كما أنَّه يُتَغَلَبُ على مشاعر التوجس والريبة، وتتشكل الرؤى، وتقوم على أساسٍ من الإحسَّاس المشترك بالهدف.

ويمكن للأشخاص الذين كانوا على خلافٍ مع بعضهم البعض أن يتواءموا مع الأهداف والاستراتيجيات. عندها يمكن أيضًا الوصول إلى تصوراتٍ ناجعةٍ، ويمكن جني رؤىً غير مسبوقةٍ،  كما أنَّ مستوياتٍ جديدةٍ من الإبداع يمكن تحفيزها، وأواصر من التواصل الاجتماعي يتم تعزيزها. وفي حين أن الحوار غالباً ما يتم الخلط بينه وبين أشكال أخرى من أشكال الخطاب، إلَّا إنَّه ينتمي إلى فئةٍ مميزةٍ خاصّةٍ به، فهو بخلاف (المناظرة) لا يوظف الحِجاج حول وجهة نظرٍ معيَّنةٍ، أو/ وليس مَعْنِيٌ بالدفاع عن مجموعةٍ من الافتراضات، أو نقد مواقف الآخرين.

كما أن الحوار أيضًا – بخلاف (التفاوض) أو بناء الإجماع ليس وسيلةً للتوصل إلى اتفاقٍ أو قراراتٍ. كما أنَّه يختلف عن (المناقشة) أيضًا، فهو يظهر فقط حين تسود الثقة بين المشاركين فيه، وحين يحترم بعضهم بعضًا، ويعلقون أحكامهم، ويستمعون بعمقٍ إلى جميع وجهات النظر.

وعملية الحوار تختلف عن (المداولات) التي لا تعتبر وسيلة تواصلٍ بقدر ما هي شكل من أشكال التفكير والتأمل الذي يمكن أن يحدث في أيّ نوعٍ من المحادثات.

الهدف هنا ليس مَعنِيا كثيرا بحل مشكلة ما، أو تحليل قضيةٍ بقدر ما هو مَعْنِيٌّ باستكشاف السبل الواعدة للعمل.

عملية الحوار تكتسب اليوم أهميةً أكثر من أيِّ وقتٍ مضى لعدَّة أسبابٍ:-

أولًا: التحديات بين التقاليد الثقافية المختلفة، والرؤى العالمية تقتضي بعض العمليات التي يستطيع الناس من خلالها التواصل عبر الاختلافات.

ثانيًا: أن تشظي المجتمع إلى عدد لا يحصى من الثقافات الفرعية تبعًا للمهنة، والمكانة، والعرق، والولاء السياسي، وما إلى ذلك، يحتم على الناس إيجاد سبل إلى أرضية مشتركة.

ثالثًا: هياكل السلطة التقليدية بدأت تتراجع القهقرى في العصر الحديث.

الحوار هو الاستجابة الأكثر فاعليَّة لهذه التطورات، لأنَّه من جهةٍ يسمح للأشخاص بتجاوز اختلافاتهم، وتشكيل إطارات مرجعية مشتركة. ومن جهة أخرى، يمنح هؤلاء المستبعدين -سابقًا من عمليات صنع القرار- فرصة المشاركة في إيجاد أرضية مشتركة، ووضع أولويات للعمل.

لكن الحوار ليس دائمًا سهل، أضف إلى ذلك أنَّه لا يسير دومًا في خطٍ مستقيمٍ، بل إنَّه يجنح نحو آلاف الطرق الخفيَّةِ.

الحوار الفعال يستلزم أن يكون لجميع المشاركين فيه مكانة متساوية، وأنَّ يستمعون باحترام وتعاطف، كما أنَّ الأفكار والافتراضات تطرح علانيةً دونما إصدار للأحكام، وعادة ما يتبع الحوار الفعال بعض القواعد الأساسية ومنها:-

– ينصب التركيز على المصالح المشتركة، وليس تلك المثيرة للانقسام.

– الحوار واتخاذ القرار عمليتان منفصلتان.

– الافتراضات التي يمكن أن تؤدي إلى تحريف وجهات نظرٍ معيَّنةٍ أو تشويهها تُوَضح على الملأ، وتظهر جلية للعيان.

– يُشَجع الناس ليبوحوا برؤاهم وافتراضاتهم قبل أن يغوصوا في رؤى الآخرين.

– عند الرغبة في إثارة قضايا عامة، ينبغي تقديم أمثلة صلبة ومتماسكة.

– تتمركز العملية (عملية الحوار) على التعارضات فيما بين الأنظمة القيمية، وليس فيما بين الأشخاص.

– عندما يستلزم الأمر، يُشَجَّعُ المشاركون على التعبير عن المشاعر المصاحبة للقيم التي يتمسكون بها بشدَّة.

– تشجيع العلاقات من أجل إضفاء طابع إنسانيّ على التعاملات الحوارية منها بشكل خاص.

– تقليص مستوى الشكوكية قبل متابعة الأهداف العمليّة.

لقد طور الفيزيائي الراحل (ديفيد بوهم) ما يعتبر على نطاقٍ واسعٍ نموذجًا للحوار الأكثر فائدةً، ورأى أنَّها طريقة لتطوير ما أسماه (الذكاء الاجتماعي العالي).

“من وجهة نظري، لا شئ أكثر أهمية ….”! في الماضي ربَّما كانت تلك المقولة والافتراض كافيًا لنيل الحقيقة عبر الذكاء الشخصي وحده. ولكن في العصر الحالي لم يعد يكفي أن نكون بارعين بمفردنا، هذا فيما لو سلَّمنا بإمكانية ذلك.

إنَّ مشاكلنا الملحَّة اليوم تستلزم أن نكون أذكياء معًا، وأن نوظف أفضل تفكيرٍ جماعي، ونضعه تحت الخدمة ليعمل من أجل العالم بأسره.

نبذة موجزة عن كاتب المقال:

(سكوت لندن)، كاتبٌ ومديرٌ ومستشارٌ في (كاليفورنيا).

ساهم في تأليف العديد من الكتب، ونشر الكثير من المقالات على نطاقٍ واسعٍ في الصحف والمجلات، والمجلات العلمية، ويعمل (سكوت) مع المنظمات الملتزمة بالابتكار الاجتماعي، والمشاركة المدنيَّة، وتنمية المجتمع، والحوار والتداول.

ولد (سكوت) في واشنطن العاصمة. وفي سن الخامسة، انتقلت عائلته إلى (ستوكهولم)، بالسويد، حيث نشأ وترعرع. عاد إلى الولايات المتحدة في منتصف العشرينيات من عمره، واستقر أخيرًا في نهاية المطاف في (كاليفورنيا)، ويعيش حاليا في (بيركلي).

————————————–

قوة الحوار The Power of Dialogue 

مقالة للكاتب الأمريكي ـ: سكوت لندن (*) Scott London 

☘️??☘️??☘️??☘️??☘️??

ترجمة الأديب والباحث والمترجم/ خلف بن سرحان القرشي

#خلف_سرحان_القرشي 

السعودية – الطائف – ص. ب 2503  الرمز البريدي 21944

ايميل:  qkhalaf2@hotmail.com

تويتر @qkhalaf

مقالات ذات صلة

‫76 تعليقات

  1. الحوار والتواصل
    أكبر مشاكل العالم
    الآن الحوار الإجتماعي داخل الأسرة فيه صعوبة
    في الطريقة والتقبل ” فجوة بين الأب والأم مع الأبناء ”
    قس على ذلك الحوارات البيزنطية في جميع المجالات
    بدون إستثناء

    طرج جميل
    ?

  2. (الحوار هو الاستجابة الأكثر فاعليَّة لهذه التطورات، لأنَّه من جهةٍ يسمح للأشخاص بتجاوز اختلافاتهم، وتشكيل إطارات مرجعية مشتركة. ومن جهة أخرى، يمنح هؤلاء المستبعدين -سابقًا من عمليات صنع القرار- فرصة المشاركة في إيجاد أرضية مشتركة، ووضع أولويات للعمل.)
    ——
    رائع جدا أديبنا الفاضل
    ????

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88