إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

عندَمَا تصِفُ الكلمَة المَعَنَى ونقيضَه! التضاد في العربية.. سمةٌ أم عيب؟

اللغة الإنسانية عطاء إلهي ابتدأ منذ لحظة خلق الله للإنسان مزودًا بلسانٍ وفمٍّ وشفتين ونحو ذلك لينتج الكلام، وكذلك بأذنين للاستماع، وقبل ذلك وبعده بعقلٍ فريدٍ قادرٍ على المعالجة والتحليل، وبالتالي الاستيعاب والفهم.

وتواصل ذلك العطاء الرباني، وبلغ أوج قمته عندما عَلَّمَ الله سيدنا آدم الأسماء كلها. قال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ. قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا، إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ . قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ، فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ}.

وتطورت اللغة شيئًا فشيئًا، وتعقدت وتنوعت مع نمو الإنسان، وتطوره وحِلِّهِ وترحاله، وتمكنه من الاتصال والتواصل بمن وما حوله.
ومن هنا يمكن القول بأن اللغة مُنْتَجٌ بشريٌّ؛ هذا المنتج حمل بعض صفات مُنْتِجِه؛ ومن تلك الصفات الغموض أحيانًا.

فالإنسان تكتنفه مشاعر وأحاسيس غامضة ومتباينة، متداخلة ومتقاطعة، ودومًا نجده بين البين من فرحٍ وحزنٍ، وسعادةٍ وشقاءٍ، وكذلك الحال في مفردات لغته وتراكيبها وسياقاتها المختلفة. والتضاد في اللغة نحسبه من المعادل اللغوي لتلك الأحوال المتبدلة.

أمرٌ ثانٍ شاركت فيه اللغةُ مُنتِجها الإنسان، وهو المرور بأطوار الحياة المختلفة؛ فكما أنَّ الإنسان يولد طفلًا ثم يصبح شابًّا، ويصير بعد تلك المرحلة إلى الشيخوخة ومنها إلى الموت، فكثيرٌ من مفردات وتراكيب وتعابير اللغة تمر بتلك المراحل بشكلٍ أو بآخرٍ.

وليس أدل على ذلك من أن هناك لغاتٌ ولهجاتٌ كثيرةٌ ماتت وتموت بشكل شبه يومي، وأخرى تنتظر؛ فوفقًا لدراسة أجريت عام 2001 فإن 90% من لغات العالم وهي 6000 لغة سوف تنقرض بحلول العام 2100، والدراسات تركز على لغات الأقليات والسكان الأصليين؛ لقلَّة عدد متحديثها، لكن ذلك لان يعني أنَّ اللغات التي تمتلك أعدادًا كبيرةً من المتحدثين بها في مأمن من خطر الموت والانقراض؛ فاللغة الإيرلندية كانت لغةً مُكتَسِحَةً في الماضي البعيد؛ لديها أدبٌ عريقٌ، وتُدرَّس بكثافةٍ في المدارس، إلا إنَّها اليوم تموت، ذلك تبعًا لما ذكرته موسوعة ويكيبيديا الإلكترونية على النت.

لقد أخضع دارسو اللغات ظاهرة الغموض اللغوي –الذي يمثل التضاد اللغوي جزءًا منه- للدرس والاستقصاء، وتناولوا أسبابه ومسبباته وأنواعه.

والتضاد اللغوي مثل غيره من قضايا (علوم الإنسانيَّات)، ظلَّ وسيظلُّ موضع تجاذبٍ وتنافرٍ، ومادة نقاشٍ وجدلٍ، ومحل إثباتٍ وإنكارٍ ليس هذا مقام بسطه والتفصيل فيه، غير أنَّه تجدر الإشارة إلى العالم اللغوي (دُرستويه) (258- 346) هجرية باعتباره من أشهر من أنكر (التضاد اللغوي)، وألف فيه كتابه “إِبْطَالُ الأضْدَادِ”، ويقول: ” … وزعم قومٌ من اللغويين أنَّ (النوه) السقوط أيضًا، وأنَّه من الأضداد، وقد أوضحنا الحجَّة عليهم في ذلك في كتابنا: (إبطال الأضداد). وممن أنكر التضاد أيضًا (أبو علي القالي)؛ (288-356هـ) في سِفْرِه الشهير : (أمالي القالي).

ويقصد بــ (التضاد اللغوي) أن تحمل المفردة الواحدة المعنى وضده في الوقت نفسه، ويبقى السياق هو الفيصل.

واللغة العربية حُبلى بمثل هذه المفردات حتى إن كتبًا عِدَّةً صُنِّفَت خصيصًا لهذا الجانب ومنها كتاب “الأضداد” لأبي بكر الأنباري المتوفى سنة 328 للهجرة، وفيه أحصى أكثر من أربعمائة كلمةٍ تدل على (التضاد)، وهناك أيضا كتاب “الأضداد”، لأبي عبد الله محمد بن المستنير (قطرب)، وكتاب “الأضداد” لابن السِّكّيت وغيرها كثيرٌ.

ومنكرو التضاد يرون أن الألفاظ التي تدل على معانٍ متضادةٍ، أنَّها من باب المشترك اللفظي، وبعضهم أرجعها إلى تعدد لغات العرب.

ومن الألفاظ التي تحمل المعنى وضده في اللغة العربية على سبيل المثال لا الحصر:

– الصريم: يقال لليل والنهار، لأن كليهما ينصرم، أي يخرج من الآخر.

– السدفة: للضوء والظلام.

– الجون: للظلمة والنور، وللأبيض والأسود.

يقول الشاعر: “تَقُولُ خَلِيلَتِي لَمَّا رَأَتْنِي شَرِيحًا بَيْنَ مُبْيَضٍّ وَجَوْنِ …”.

– السجود: للانحناء والانتصاب.

– الرجاء: يستعمل بمعنى الشك، واليقين.

– اشترى: أعطى الثمن وقبضه.

– عسعس الليل: أي أقبل وأدبر.

– فــزع: أغاث، واستغاث.

– قَسـَـطَ: عــدل وظــلم.

– وَلَّـى: أدبــر، وأقبـل.

– الشَـرْف: الارتـفاع والانحدار.

– الصَّارِخُ: المستغيث، والمغيث.

– الرَّهْوة: الارتفاع، والانحدار.

– الشَعب: الافتراق، والاجتماع.

– الناهل: العطشان، وكذلك الذي شرب حتى ارتوى.

– الظَنٌ: الشك، واليقين.

– بِعْتُهُ: اشتريته، وبعته.

– شَرَيْتُ: بعت، واشتريت.

– الجَلَلُ: الشيء الصغير، والشيء العظيم أيضًا.

– الغَرِيْمُ: المطلوب بالدين، والطالب دينه.

– المَأتَمُ: الاجتماع في فرحٍ أو حزنٍ.

– الهَاجِدُ: المُصَلِي بالليل، وهو النائم أيضًا.

ومن الأمثلة الدَّالة على التضاد أيضًا ما ذكره (أميل بديع يعقوب) في كتابه (فقه اللغة العربية وخصائصها):

“الأُزْر: القوّة أو الضعف، والبَسْلُ: الحلال أو الحرام، وبَلَق الباب: فتحهُ كلَّه أو أغلقَه بسرعةٍ، ثَلَّ: دَكَّ أو رفع، الحميم: الماء البارد أو الحار، المولَى: العبد أو السيّد، الذوح: الجمع أو التفريق، الرسّ: الإصلاح أو الفساد، الرعيب: الشجاع أو الجبان، الرَهْوَةُ: ما ارتفع من الأرضِ أو ما انخفضَ”.

ومن ألفاظ التضاد أيضًا:

– وَجَل: تعني الماء الكثير والماء القليل.

– شَوْهَاء: تقال للمرأة القبيحة وللمرأة الحسناء.

ومن الأمثلة السابقة وغيرها، وكذلك من خلال ما كتبه علماء اللغة قديمًا وحديثًا نرى حقيقة التضاد، أما أسبابه فهي متعددةٌ، وقد ذكرها وفصَّلها علماء اللغة؛ الأقدمين والمحدثين ومنها:

1. نزوع الإنسان نحو التفاؤل والبِشْر فكما يقال للمبصر (البصير) فهي تقال أيضا للأعمى تفاؤلًا وأملًا. والمفازة: أصل معناها النجاة من الهلاك، أما إطلاقها كاسمٍ للصحراء وهي مرادف الهلاك والموت فمن قبيل التفاؤل.

ولفظة (شَوْهَاء) صفةٌ تقال عن المرأة الجميلة، ولكنها تطلق على المرأة القبيحة. وكلمة (وَشَل) تقال للماء الكثير، وللاستبشار والفأل الحسن تقال أيضا للماء القليل لعلَّه بأمر الله يصبح كثيرًا.

2. الخوف من العين والحسد فمفردة (شَوْهَاء) تطلق على المرأة الجميلة، ولكيلا تحسد أصبحت الكلمة تطلق على المرأة القبيحة أيضًا.

3. تغير وتحول دلالة اللفظ من العموم إلى الخصوص مثل لفظة (طَرِبَ) التي تعني (الخِفَةِ) تصيب الرجل لشدَّة الفرح أو الحزن، ثم تخصصت بالفرح.

4. التهكم: وهذا العامل يؤدي إلى قلب معنى اللفظة، وتغيير دلالاتها إلى ضدها، كقولنا للعاقل “الجاهل”.

والقرآن الكريم مصدر العربية الأول وكتابها الأساس يحتوي على بعض ألفاظ التضاد؛ ومنها لفظة (قروء) التي تطلق على الحيض وكذلك على الطهر منه. قال تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ۚ}.

وهناك مفردة (وراءهم) التي تعني أحيانًا (أمامهم) في قوله تعالى {أَمَّا ٱلسَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَٰكِينَ يَعْمَلُونَ فِي ٱلْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا}. وكذلك قوله تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا}، قال المفسرون: (أخفى) من الأضداد، بمعنى الإظهار، وبمعنى السِتْر. والآية تحتمل المعنيين.

وظاهرة التضاد اللغوي ليست خاصةً بالعربية وحدها، ويرى البعض أنها موجودةٌ في كلِّ اللغات الحيَّة. يذكر الباحث (محمد نور الدين المنجد) في كتابه (التضاد في القرآن الكريم بين النظرية والتطبيق): (أنَّ ظاهرة التضاد ليست موجودةً في اللغة العربية فحسب، وإنَّما هي موجودةٌ في جميع اللغات الحيَّة).

وقول (المنجد) أعلاه صحيحٌ، ففي اللغة الإنجليزية مثلًا نجد كلمة (seed) تأتي بمعنى (يبذر)، وتأتي أيضًا بمعنى (ينزع البذور).

وكذلك كلمة (left) تجئ أحيانًا بمعنى الباقي من القوم أو الأشياء في مكانٍ ما، وأحيانًا بمعنى الذاهب أو المغادر ونحوه.

ومفردة (Screen) تأتي بمعنى يعرض للمشاهدة، كما أنها تأتي بمعنى يخفي عن المشاهدة.

في اللغة الإيطالية نجد أن لفظة (تشاو ciao) تعني (أهلًا / مرحبًا) وتعني أيضًا (وداعًا).

أخيرًا.. هل التضاد في اللغة سمةٌ أم عيبٌ؟

ثمَّة خلافٌ لغويٌّ بين أرباب اللغة قديمًا وحديثًا في هذا المجال؛ لا يتسع المجال للتطرق إليه هنا، وقد تناولته مراجعٌ وكتبٌ كثيرةٌ، وأطروحاتٌ جامعيةٌ عديدةٌ فمنهم من يرى أنَّه يحد من ثراء اللغة، ودليل عجزها، وقلة مَعِينَها، ومنهم من يراه سمة وميزةً ودليلًا على تطور اللغة وعدم جمودها.

والخلاف بينهم يأتي لأسبابٍ شتى من أبرزها قضية تعريفهم للتضاد، واختلافهم في دلالته اصطلاحًا، وهنا –كما هو الحال في حالاتٍ كثيرةٍ- لا تصدق المقولة الشهيرة: (لا مشاحة في الاصطلاح).

وفي رأيي المتواضع أنَّ التضاد لو كان يعيب اللغة، لما وُجِدَ في كتاب الله عز وجل، والله أعلم وأحكم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
أفدت في هذه المقالة من عدَّة مراجع ومصادر ومواقع على الشبكة العنكبوتية ومنها/
1. موسوعة ويكيبيديا على الإنترنت:
https://ar.wikipedia.org
2. مقال للباحثة المغربية (هاجر الملاحي) في موقع:

التضاد في اللغة العربية … هاجر الملاحي


3. موقع (إسلام ويب):
http://articles.islamweb.net
4. موقع (لكل سؤال إجابة):
https://ejaaba.com

☘️??☘️??☘️??☘️??☘️??

بقلم الأديب والباحث والمترجم/ خلف بن سرحان القرشي

#خلف_سرحان_القرشي 

السعودية – الطائف – ص. ب 2503  الرمز البريدي 21944

ايميل:  qkhalaf2@hotmail.com

تويتر @qkhalaf

مقالات ذات صلة

‫107 تعليقات

  1. جميل هذا المقال الذي بخص جانباً من جوانب اعجاز اللغة العربية
    حقا : إن اشتيارك واحة ظليلة غناء وفناء بما فيها

  2. اشكرك ايها الاديب الفاضل على الطرح فقد ابحرتنا في علوم اللغة العربية وغصت في معانيها لتخرج لنا الآليء والأصداف لننهل منها العلم والفائده …. دمتم بود

  3. اختيار المولى تعالى اللغه العربية لغه للقران في كثير من الاعجازات والتاملات حتى يكون مببن له في ذلك حكم

  4. لك فلك خاص استاذ خلف في كل مقالاتك نرى فيها الكثير من الاستقلال بالذات والاختلاف مما يدل على تجدد الافكار وكم انتا مثقف الى ابعد الحدود ما شاء الله على حضرتك الى الامام

  5. والتضاد اللغوي مثل غيره من قضايا (علوم الإنسانيَّات)، ظلَّ وسيظلُّ موضع تجاذبٍ وتنافرٍ، ومادة نقاشٍ وجدلٍ، ومحل إثباتٍ وإنكارٍ ليس هذا مقام بسطه والتفصيل فيه.

  6. الموضوع غاية في الروعة، ولكن أعتقد أنه بالنسبة للمستخدم الإلكتروني يفضل أن يُقسم الموضوع على جزأين لصعوبة انتباهه طوال قراءته واستيعابه للموضوع.

  7. ويقصد بــ (التضاد اللغوي) أن تحمل المفردة الواحدة المعنى وضده في الوقت نفسه، ويبقى السياق هو الفيصل.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88