إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

بين الحِبْرِ والحُبَارَى.. قراءة نقدية في قصيدة (رماد الذكريات) للشاعر: محمد النفيعي (ج2)

تمر هذه الأيام الذكرى الخامسة لرحيل الشاعر المبدع، و المحرر الصحفي الحرفي محمد بن خالد النفيعي رحمه الله تعالى.
وهذه القراءة المتواضعة في نصها يهديها كاتبها له و إلى أفراد أسرته وأصدقائه وذويه ومحبيه ومتابعي نتاجه الشاعر والمعجبين به.. نسأل الله له الرحمة والمغفرة وعظيم الأجر والمثوبة.

الأديب/ خلف بن سرحان القرشي

نستكمل ما تم تفديمه في الجزء الأول على هذا الرابط

[button color=”red” size=”medium” link=”https://www.alhtoon.com/184406/” target=”blank” ]رابط المقال السابق لمن يرغب في الاطلاع عليه[/button]

يقول الشاعر

” كنت من طيبي أعدّه كل ما هو لك ليه
كنت لامنّي عطيتك مانتظرك تقول:هات
وان يمينك صافحتني صار قلبي هو يديه
صرت مدري هي يمينك او يمين الذاريات”

الشاعر هنا يذكرنا بالمتن الصوفي الذي يذوب فيه الحبيب في محبة من يحب؛ لشدة الوجد والعشق، حيث يشكلان معا شخصًا واحدًا، وروحًا متحدةً. وكان الشاعر يعطي حبيبه ما يطلبه منه، بقلبه قبل أن يعطيه بيديه.

استخدام الشاعر عبارة (يمين الذاريات)، فيه تناصٌ جميلٌ مع قوله تعالى: (وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6). “سورة الذاريات”. ونلاحظ أن لفظة (اليمين) تعني: اليد اليمنى، وتعنى أيضًا: (القَسَم)، ويفتح الشاعر بهذا التناص البارع امتدادًا أكثر للدلالة والتأويل، فقد يقصد أنَّ يمين حبيبه عندما تصافحه، وتلامس يدُ كلٍ منهما الآخر، لم يعد يعلم هل تلك اليد التي تصافحه هي يد حبيبه، أم يد الريح (الذاريات)، ومتى كان للريح يدٌ يعول عليها تحفظ شيئا أو تبقيه؟!

وإذا “كان المعنى في بطن القارئ”، كما يقول (آيزر، وياوس)(4) ، فإني أحسب أن الشاعر يشير إلى أن تلك المصافحة بين الشاعر وحبيبته بمثابة قسمٍ عظيمٍ، ويمينٌ مغلظةٌ تُذَكِّرُ بقسم الله عزَّ وجل -ولله المثل الأعلى- لكفار قريش بأنَّ ما يعدهم به الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم من العذاب إن استمروا على كفرهم، فإنَّه واقع بهم لا محالة. ولكن هل حبيبة الشاعر استشعرت هذا العهد والميثاق؟ وهل كانت أهلاً له؟

“خابره قلبي حظوظه فالهوى دايم رديه
خابره لاقال: روحي، ياهموم الوقت جات”

يندب شاعرنا حظه -شأنه شأن معظم العشاق إن لم يكن جميعهم-، ويشكو بؤسه، ويسخر من معاناته وحرمانه، وكأني به يُحِلُّ معشوقه من اللوم، ولا يريد معاتبته.

“وأنت شيل الجرح عرضه ثم شيله سامريه
دام لك هم سمين ولك ضلوع ناحلات”

هناك من يطلب من الشاعر أن يشيل الجرح، لعلَّه (قلب الشاعر) نفسه، وقد يكون هو (الزمن)، وأيًّا كان الطالب، فلا بد ممَّا لا بد منه، فعلى الشاعر أن يحمل جرحه، بل جراحه، وكيف لا يحملها، وهمه من جرائها وبسببها غدا سمينٌ وكبيرٌ وعميقٌ، للحد الذي أصبحت معه ضلوع صدره ناحلةً من شدة وجعه. نعم مطلوبٌ منه أن يشيل جرحه، ويرقص به رقصتين: (عرضة)، و (سامرية)! فيا للمفارقة بين (الجراح) وبين (الرقص)! ألم نسمع كثيرًا بعبارة (الرقص على الدماء)؟ المشهد هو نفسه فيما يبدو.

ونلحظ هنا استخدام الشاعر الذكي للفعل (شِيْل) بمعنين مختلفين في شطرٍ واحدٍ: الأول بمعنى (احمل) والثانية بمعنى (ردد / غنّ / أنشد). (شيل الجرح) و (شيل كلمات القصيدة)! وليس هذا هو الوجه الإبداعي الوحيد في هذا البيت، بل إنَّ ثمَّةَ إبداعٌ آخر يتمثل في اختيار الشاعر الدقيق لنوعي الرقص: (العرضة) وهي رقصة حرب، و (السامري) وهو رقصة (حب)، وهنا تعزيز وتأكيد لما أشرت إليه سابقًا عندما ذكرت بأنَّ ” …. الشعر الأصيل الخالد عبر التاريخ الإنساني لا يتولد إلا من رحم حبٍّ أو حرب”.

“لاهو انت اللي تصبك فالمعاليق برديه
ولاهو انت اللي تبللّ بالعطش ريق الفلاة
من متى وفّى سرابك موعده يالمهمهيه
من متى كانت هدوم الذنب سجادة صلاة؟”

يعود الشاعر يخاطب محبوبته بصورٍ فريدةٍ ولغةٍ بليغةٍ ولسان حاله يقول لها: “أَنْتِ شحيحةٌ في العطاء، بل إنَّك لا تعطين شيئًا البتة، ولا يعول عليك في علاج الجروح. فوعودك للأسف سرابٌ. مثلك مثل ملابس دنسٍ، لا يمكن أن تكون ملابس طهرٍ/ سجادة صلاة”!

وهنا يستحضر الشاعر العلاقة/ الضِدُّ بين (المدنَّس) متمثلًا في (هدوم الذنب)، و(المقدس) ممثلًا في (سجادة الصلاة)، فشتانٌ بينهما. ولا يمكن أن يكون أحدهما بديلًا للآخر!

وهو يلمح لنا ضمنًا بأنَّه هو الطهر ذاته، بينما حبيبته؛ بهجرها إياه هي الدنس والرجس! إنَّه (سجادة صلاة) بكل رمزيتها وإيحاءاتها، بينما هي (هدوم الذنب)!

ألا يمكننا أعزائي القراء –ولو بشيء من التكلف- استدعاء الأقمصة المذكورة في سورة يوسف. حيث ارتبط قميصان منهما بالذنب: القميص الذي جاء به أخوة يوسف عليه السلام لأبيهم به زاعمين أن الذئب قد أكله، فهو قميص قد لوث بذنب كذبهم، والقميص الثاني هو الذي (قدَّ) من دبر من قبل امرأة العزيز، داعيةً يوسف لعمل الفاحشة.

هذان القميصان يعدان ثياب (هدوم) ذنبٍ، أمَّا قميص يوسف الذي ألقاه البشير على وجه سيدنا يعقوب، فارتدَّ بصيرًا، فهو مثل (سجادة الصلاة) في هذا النص.

“لاتقول شوي فيها هو بعد باقي شويه
بين دربك والنهايه كلّها حذفة عصاة”

يرفض الشاعر طلب عشيقته منحها فرصةً أخيرةً، فقد أصدر (فرمانه)، ويؤكد لها أنَّ المسافة بين بقائها حبيبةً له، وبين رحيلها من حياته هي مسافةٌ قصيرةٌ جدًا؛ مثلها مثل (حذفة حصاة) كما يقول البدو، وصدق جار الله الحميد عندما وصف ذات مرةٍ شاعرنا: بقوله: “النفيعي البدوي الذي يسكن المدينة”(5).

ولا يخفى على القارئ أنَّ كرامة الشاعر تحضر هنا بقوةٍ، فنفسه عزيزةٌ، وعشقه لحبيبته ليس مُبَررًا لأن يظل رهين قرارتها؛ تصله متى شاءت، وتهجره متى ما أرادت.

وعزّة الشاعر هنا متماهيةٌ ومتسقةٌ مع ملمحين سابقين في القصيدة (عزة نفس تمنعه من أن يصطاد العادي، فهو يمم نحو صيد الممتنع والنادر والصعب (الحبارى)، وبالطريقة الأصعب (البندقية)، وعزة المكان (نجد)؛ المشار لها سابقًا في أبيات القصيدة، وتاريخها العريق، فعبر تاريخها كانت عصيَّةً عزيزةً أبيَّةً على أعدائها، والطامعين بها.

“عاد تدري حطّها كل العيوب السبع فيه
ماخبرت انه يضر السلخ بعد الذبح شاة”

يقول لمحبوبته: “حمليني وزر ما حصل ويحصل بيننا إذا أردت. لم يعد الأمر يهمني، بعد هجرك، “قولي فيَّ ما تقولي”، ضعي فيَّ كل العيوبَ، حمليني الوزر. لم تعد اتهاماتك تعنيني أو تؤثر فيَّ، فأنا بعد جرح هجرك تساوت عندي الحسابات، وما يحدث لي بعده مهما بدا سيئًا، فهو لا شيء إذا ما قورن بمصيبة هجرانك لي”!

ونلحظ استخدام الشاعر الجيد لعبارة (العيوب السبع)، والرقم (سبعة) رقمٌ له كثيرٌ من الدلالات، والسحرية والجاذبية، والعمق في النصوص الدينية والشعبية. والعبارة تذكرنا بــــ (الموبقات السبع) الواردة في الحديث النبوي الشريف. (اجتنبوا السبع الموبقات …إلخ).

“ماخبرت أنه يضر السلخ بعد الذبح شاة”

ثقافة الشاعر الموسوعية تسعفه هنا كما هو الحال معه دائمًا حيث يتناص مع مقولةٍ تراثيةٍ مشهورةٍ غدت مثلًا تسير به الركبان وهي مقولة: “وهل يضير الشاة سلخها بعد ذبحها”، والتي قالتها أسماء بنت أبي بكر الصديق (ذات النطاقين)، رضي الله عنهما، لابنها عبد الله بن الزبير بن العوام رضي الله عنه، عندما قال لها متحدثًا عن أعدائه: “أخاف إن قتلوني يمثلون بي”، فقالت له: “وهل يضير الشاة سلخها بعد ذبحها”!

“لااني لااول ولااخر من تنكر له خويه
والله ادري مير هوني يالجروح الكايدات
لاأنا مجنون فيك ولا أنت محدود(ن) عليّه
مثلنا في الناس واجد والفيافي واسعات”

في آخر بيتين يواسي الشاعر نفسه -ولو كذبًا- بأنه ليس الأول، ولن يكون الأخير الذي يتعرض لهجران الحبيب، ويطلب من الجروح الرفق به. وربّما تكون هذه المواساة نابعةً من كرامته وعزة نفسه، فهو يزعم أنَّه ليس (مجنونًا) في عشقه لحبيبته، وفي المقابل فهي ليست مجبورةٌ على عشقه، فغيره وغيرها كثيرٌ، وأرض الله واسعة. وهنا تناصٌ موفقٌ في المعنى مع قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا …}.

فالهجرة خيارٌ مطروحٌ هنا على الأقل بالنسبة للشاعر نفسه. ولسان حاله يقول: “سافر تجد عوضًا عمَّن تفارقهُ
وَانْصِبْ فَإنَّ لَذِيذَ الْعَيْشِ فِي النَّصَبِ”.

انتهت رحلتنا مع هذا النَّصِ الباذخ المفعم بالصور البليغة، والألفاظ المنتقاة، والمعاني البديعة والتي وظفها الشاعر في ملحمةٍ خالدةٍ لا تشبه إلا نفسها، وأرجو أن تكون هذه القراءة قاربت شيئًا من جماليات هذا النّص.

مقالات ذات صلة

‫43 تعليقات

  1. ابو سعد : تهت في بطحائي مابين محمد رحمة الله عليه وعلى كل المسلمين وغفر الله لنا وله أجمعين .. ومابين روعة القصيدة وجمال مفرداتها وبين تحليلك لها عندما فرشت شيراز بساطها لنا .. وأخذتنا في رحلة المتعة والابداع ..
    شكرا لك من القلب قبل اللسان؛ وتقبل كل احترامي وتقديري.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88