إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

مستقبل القلم

لفت نظري قبل عام تقريبًا، قيام واحدةٍ من أشهر شركات صناعة وإنتاج وتسويق أجهزة الهواتف المحمولة، باستخدام كلمة (قلم) في إعلاناتها الترويجية لآخر إصداراتها من تلك الأجهزة آنذاك.
يقول الإعلان: “خطط نجاحك بقلمك”! وهذا الاعلان ينطوي على مفارقةٍ تستدعي الاهتمام، وتسترعي الانتباه؛ تكمن في أن منتجات هذه الشركة ومثيلاتها هي الأكثر تهديدًا لـــ (القلم) -الذي نعرفه- أيّما تهديد!.

فلماذا -والحالة هذه- تستخدم الشركة مفردة (القلم) في إعلانها؟

لعلَّ تلك الشركة أرادت جعل دعايتها أكثر تأثيرًا في نفوس المستهدفين من خلال استدعاء وتوظيف ما علق بالذاكرة الإنسانية من مشاعر حبٍّ وامتنانٍ وتقديرٍ ووفاءٍ لهذه الأداة العظيمة، والنعمة الفريدة التي سخرها الله للإنسان وعلَّمه إِيَّاها. قال تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ).

وقد أقسم الله عز وجل بـــ (القلم) وذلك تعظيمًا لشأنه، قال تعالى: (ن والقلم وما يسطرون. ما أنت بنعمة ربك بمجنون).

لقد ارتبط القلم برقي الإنسان وترقيه في مسلسل الحضارة الإنسانية. يقول الدكتور/ خالد النجار واصفًا القلم: “بسيطٌ في شكله، عظيمٌ في شأنه؛ كم عَبّرْنَا به عن مكنونات نفوسنا، وخلجات صدورنا، وبه تعلمنا، وأبصرنا نور العلم، وبه سُطرت حضاراتٌ، وقامت ممالكٌ وإمبراطورياتٌ، وبه جُمع حصاد العلوم والمعارف والأفكار والأشعار” (1).

وعودًا على بدءٍ لإعلان تلك الشركة، نقول إنَّه في الحقيقة يشير إلى شيءٍ غير القلم الذي نعرفه؛ قلمٌ إلكتروني ملحقٌ بجهاز الهاتف النقال غرضه الرئيس الإشارة والتأشير والنقر على مفاتيح وكلمات وحروف في شاشة الجوال وفي لوحة مفاتيحه، وحريٌّ به أن يسمى (المؤشر) أو (الناقور) أو شيءٍ من هذا القبيل؛ لأنه يؤدي وظائف غير وظيفة القلم المعتادة، وأعني بها الكتابة اليدوية، وإن كان يتضمنها جزئيًا من خلال إتاحته الفرصة لمستخدمه للرسم، وكتابة بعض الملاحظات.

إن القلم الذي عرفته معظم -إن لم تكن كل- الحضارات الإنسانية منذ فجر التاريخ، وارتبط بها ارتباط السوار بالمعصم، يواجه اليوم مستقبلًا مخيفًا، ووضعًا حزينًا يهدده بالفناء، والانتهاء، والذهاب إلى متاحف التاريخ والآثار، بعد أن كان يُزَيِنُ جيب كلِّ متعلمٍ، ويتصدر حقيبة كلِّ تلميذٍ، ويتوج مكتب كلِّ مديرٍ وموظفٍ، ناهيك عن الكاتب والمؤلف الذي كان القلم بمثابة إصبعٍ سادسٍ في يده.

(ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ۚ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ).

كان القلم العلامة الفارقة بين الإنسان المتعلم والأميّ، وكنا ونحن صغار شأننا شأن غيرنا، نفرح ونبتهج كثيرًا عندما ننتقل دراسيًا إلى الصفوف الابتدائية العليا التي يسمح لنا فيها المعلمون باستخدام القلم الحبر عوضًا عن قلم الرصاص الذي يناسب الصغار أكثر، لأن ذلك الحدث ينطوي على معنىً له دلالته في نفوس الصبية.

لقد حالت التكنولوجيا الحديثة بتقنياتها المختلفة في مجال الكتابة والطباعة والنشر -وبالأخص أجهزة الهاتف الجوال- بين الإنسان وبين استخدام القلم، ولم يعد موجودًا في جيوب الناس كما كان في السابق، رغم تشبث بعض ذوي الجاه واليسار بحمل أنواعٍ ثمينةٍ وفاخرةٍ من الأقلام، ليس للكتابة بقدر ما هي للمباهاة، وإبراز المكانة الاجتماعية، والمنزلة المادية.

والتهديد الذي يتعرض له القلم اليوم، ليس التهديد الوحيد في تاريخه؛ فقد هدَّده من قبل اختراع الآلة الكاتبة (Typewriter) أو (الآلة الطابعة) والتي يعود تاريخ صنعها إلى العام 1714م.
ولكن القلم استطاع الصمود أمام ذلك التهديد بفضل مرونته، وسهولة حمله، والتنقل به من مكان الي آخر بخلاف تلك الآلة التي كان حجمها عائقًا أمام مستخدميها ليجعل منها قاضيةً على القلم، رغم تأثيرها الواضح عليه.

وليس أدل على حقيقة التهديد الذي يواجه القلم حاليًا ومستقبلًا من أنَّ صناعته تواجه تراجعًا ملحوظًا أشارت له بعض التقارير المتخصصة؛ ومنها تلك التي نشرها معهد (يورومونيتور)، والتي تفيد بأنَّه منذ عام 2012، فإن مبيعات الأقلام آخذةٌ في الانخفاض في معظم البلدان الغربية. وفي دراسةٍ بريطانيةٍ أجريت بتكليف من قبل شركة (دوكمايل) المتخصصة في البريد الإلكتروني، والطباعة في شهر يونيو عام 2014م، شملت 2000 شخص، أفاد ثلث هذا العدد بأنهم لم يستخدموا القلم بتاتًا خلال الستة أشهر الماضية، وأن المعدل الوسطي لعدم استخدام المشاركين القلم بلغ 41 يومًا.
يقول أحد الصحفيين الغربيين واصفًا الحالة: (إننا حاليًا نكتب أكثر مما كنا نكتب سابقًا، لكننا نكتب أقل باستخدام القلم والورق) (2).

لعلَّه من نافلة القول الإشارة إلى أن مستقبل القلم -الذي هو الآن على (كفِّ عفريتٍ) كما يقال- ينعكس تلقائيًّا على مخرجاته من أنواع وأشكال الكتابة اليدوية، فَقَلَّ أن تجد اليوم في معظم أنحاء المعمورة من يدبج رسالةً شخصيةً بيده، ويرسلها لصديقٍ أو قريبٍ عبر البريد التقليدي.

في العالم الغربي شرعت بعض المدارس في التخلي شيئًا فشيئًا عن اعتبار القلم أداةً رئيسيةً للكتابة، ومنها مدرسة خاصة لتعليم اللغة الإنجليزية في جنيف، حيث أنفقت ما يناهز ثمانمئة ألف يورو على مدى ثلاث سنواتٍ، لتجهيز كلِّ قاعات الدروس بلوحاتٍ رقميةٍ حيث يستخدم كلُّ طالبٍ لوحة مفاتيحه الخاصة والمجهزة ببرامج تربويةٍ محددةٍ لكلِّ ما تستلزمه الكتابة (3).

إن جدوى تعليم التلاميذ في سنين دراستهم الأولى مهارات الكتابة بخط اليد قضيةٌ بدأت تأخذ مجالها من النقاش في الأوساط التربوية بين مؤيدٍ ومعارضٍ، وأتوقع أن يكسب المعارضون المعركة عطفًا على حجتهم القوية -من وجهة نظري- والتي تقول إن تعليم الكتابة اليدوية يستغرق وقتًا وجهدًا، ويكلف مالًا دونما جدوى، وأنه لا يتناسب مع سوق العمل الذي يتطلب إتقان مهارات الطباعة على لوحات المفاتيح، وليس الكتابة باليد.

أهل القلم وعشاقه، لا سيما من كبار السن يبقى لهم التشبث بالأمل في أن يظل صامدًا أمام هذه التحديات، مثلما صمد ذات زمنٍ أمام تحدي الآلة الكاتبة.

ويعزز تفاؤلهم هذا أنَّ دراساتٍ علميةٍ خَلُصَتْ إلى أنَّ تدريب التلاميذ على مهارة الخط اليدوي يترتب عليه تنشيطٌ وتحفيزٌ ملحوظٌ لأذهانهم، ففي مقال كتبته (ماريا كونيكوفا) في صحيفة (نيويورك تايمز) الأميركية، ذكرت فيه أدلةً تَوَصَّلَ إليها بعض علماء النفس والأعصاب تُشير إلى العلاقة العميقة بين الكتابة باليد والتطور التعليمي الواسع؛ فتعلم الأطفال الكتابة بأيديهم أولاً، لا يعلمهم كيفية القراءة بسرعٍة أكبر فحسب، بل يجعلهم أكثر قدرةً على توليد الأفكار والاحتفاظ بالمعلومات، مما يعني بكلماتٍ أخرى أن الأهمية لا تقتصر على ما نكتبه، ولكن أيضًا على كيفية كتابتنا له(4).

وقال العالم النفسي في مؤسسة «كوليج دي فرانس» في العاصمة الفرنسية باريس، ستانيسلاس ديهان: “عندما نكتب، تنشط آليًّا دائرةٌ عصبيةٌ فريدةٌ”، مشيرًا إلى وجود تمييزٍ جوهريٍّ للحركة في الكلمة المكتوبة، وهو ما يتم بواسطة المحاكاة الذهنية في العقل. وأضاف: “يبدو أنَّ هذه الدائرة تُسهم بطرقٍ فريدةٍ من نوعها لم ندركها، الأمر الذي يجعل التعليم أسهل”(5).

وإلى أن تُحسم المعركة، وتضع الحرب أوزارها بين الكتابة اليدوية وبين الكتابة الآلية من خلال لوحات المفاتيح المختلفة، يبقى ويظل محبي القلم ومناصريه يرددون مع الشاعر أبي الفتح البستي قولته الحق الشهيرة:

إذا افتخر الأبطال يومًا بسيفهم وَعَدُّوه مما يُكْسِبُ المجد والكرم
كفى قلم الكتاب فخرًا ورفعةً مدى الدهر أن الله أقسم بالقـــــــلم.

المصادر

(1) http://www.saaid.net

(2)http://www.euronews.com/2014/05/27/writing-the-future-will-the-tablet-replace-the-pen

(3) المرجع السابق.

(4)http://www.emaratalyoum.com/technology/electronic-equipment/2014-06-07-1.682865

(5) المرجع السابق.
————————————————————————-

☘️??☘️??☘️??☘️??☘️??

بقلم الأديب والباحث والمترجم/ خلف بن سرحان القرشي

#خلف_سرحان_القرشي 

السعودية – الطائف – ص. ب 2503  الرمز البريدي 21944

ايميل:  qkhalaf2@hotmail.com

تويتر @qkhalaf

مقالات ذات صلة

‫5 تعليقات

  1. القلم سبابة ووسطى وابهام وشعاب تسيل بحروف التعبير والفكر والمنطق .. هو أداة علوم الدين والتاريخ والأدب وكافة العلوم – انه كنز التوثيق .. بدونه لم نكن لنعرف الماضي؛ وبدونه لم نكن لنعرف الحروف والأرقام واللغات .. بمعنى آخر هو العلم والوصف والأوصاف.
    وان كنا نرى أن طفرة تقنية المعلومات أراحت القلم في بعض الحوانب ولكنه يبقى سيد العلم والمعرفة.

    شكرا أبا سعد .. لقد كدنا ننسى مقام وقدر صاحب المقام والرفعة.

  2. لقد كتبت في هذا المقال أمراً نكأ الجرح خاصة في مجال التعليم ، وخاصة قلة الاهتمام بالقلم تعليماً واهتماما ، وأتى الزمن الذي ظهر فيه ضعف الطلاب في الاهتمام بالكتابة
    ولعل في هذا المقال مايبدي تقاؤلا بالاهتمام بالقلم

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88