إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

الحيرة الحضارية

يُرصد خللٌ بين التصورات المثالية، وتطبيقاتها على أرض الواقع، ذلك انّ المقاييس التي بوجبها تُسن القوانين، وتُنظّم الحياة، التي تضع حدًّا للصراعات الأيديولوجية والفكرية، باتت تنظيرية أكثر منها تطبيقية، وهو أمر انتبهت له أمم نجحت في تخطي أخطار الحروب الطائفية والقومية، والكراهيات المجتمعية.

المثال في هذا الصدد (أوروبا)، ففي المشاهد اليومية التي يعيشها العربي والمسلم، يرصد حقيقة أنّ التباين الشاسع بين الثقافات وتعدد الانتماءات، لم يعد مقياسًا يقف حجرة عثرة، في طريق ترسيخ آلية مشتركة للتفاهم، ومن ذلك أن الفرد الذي صقلته حضارة العصر، يشعر بالقوة في سلوك التسامح والصفح ومحاولة فهم الآخر، على الرغم من أنه غير مؤدلج عقائديًّا، فيما أفراد شعوب أخرى، حظها من التعليم أقل، وتتحمس لتعصبها العقائدي والفكري، تجدها تعيش في أوربا بنفس روح التشدد والغلو والانتقام والثأر، بل وفي فرض القيم والأخلاق الخاصة بفئة معينة حتى على المجتمعات الأوروبية التي يعيش فيها ضمن أقلية.

ثمة حاجة إلى صياغة النظريات الجديدة في بلادنا، لصقل السلوك الجمعي، باتجاه ثقافة التساهل والمحبة، والتفاعل مع المختلف، حيث التجربة الناجحة في أوروبا، تجعلنا ننسخ أمثلة، تساهم في بث الحماس بين أفراد مجتمعاتنا، ففي القارة البيضاء ومنذ القرن التاسع عشر، انحسرت بشكل واضح المفاهيم التي كانت تسيطر على الذهنية الغربية، في تحديد العلاقة بالآخر على أساس القومية والدين، وأصبح البديل هو الأداء، والإنجاز.

انحسرت عن هذه الدول رغم شعورها بتفوقها في مجالات العلم والثقافة والأدب على الدول الأخرى، العنصرية الأوروبية، التي تعكس تفوق ثقافة ودين الرجل الأبيض، وأنّ الذي يجب أن يقود العالم، الثقافة الأوروبية البيضاء المستمدة جذورها من حضارة الإغريق، وأنّ الثقافة المسيحية يجب أنْ تسود بحكم أجندتها الحياتية والفكرية وقدرتها على الإقناع.

عكس التسامح الأوروبي، فإنّ هناك حتى في داخل أوروبا نفسها، من يصر على التمايز السلبي، متوهّمًا بانّ ذلك يمكنّه من التأثير والشعور بالبقاء، على الرغم من كونه أقلية مهاجرة، وهو سلوك ناجم عن التربية المغذية للتحجر والحذر من الآخر، والشعور بالنقص، أو بالتفوق أمامه، ففي كلا الحالين، فإن ذلك مدعاة إلى عدم الاندماج، في المجتمعات الجديدة والعيش على الهامش فيها.

إنّ أحد أسباب النجاح الأوروبي، هو تجاوز الغلواء والذاتية، في التعامل بين أفراد المجتمع، من مواطنين أصليين ومهاجرين، وهو عامل أهّل هذه الشعوب على الابتكار والخلق، وتحولها إلى المعلم الأول للعالم، رغم ندرة خطابها المؤدلج لكسب الأتباع، وانحسار أسلوب الوصاية على الدول الأقل شأنًا، وكان ذلك سببًا في تحولها إلى بلدان تلونها الهجرات المتعددة والعادات والتقاليد المختلفة، القادمة من الشرق والغرب ومن الشمال والجنوب.

مع مرور الأيام، لا مفرّ من توقع اندماج واسع وجذري لثقافة أوروبا التي كانت في يوم من الأيام تجد نفسها متميزة، وهي الابنة المدللة للملك الفينيقي الذي أغدق عليها الإله الأوليمبي (سيوس) قوته وجماله وذكاءه، مع ثقافات المسلمين، والهندوس، والبوذيين، والأديان الأخرى، في تجانس تاريخي بين تراث الشرق ودياناته وثقافاته ومنتجات الحضارات الهيلينية، والمسيحية، والعلمانية، والإسلامية.

تاريخيًّا، فانّ ذلك حدث يومًا على أيدي العرب المسلمين، في الأندلس، حين ذاب العرب في الأرض التي وفدوا إليها، وتعلموا ثقافتها، واكتسبوا رقة أهل الأندلس الأصليين، وتبادلوا معهم الثقافات، وأصبحوا أكثر انفتاحًا حتى من الأندلسيين أنفسهم، وتجاوزوا في علومهم الميثولوجيا الدينية، إلى العلم والفن والأدب، واختلطت أفكار ابن رشد، فيلسوف قرطبة مع أطروحات توماس الاكويني (المعلم الأول للأوربيين).

يقود التسامح أوروبا، إلى إزالة السدود أمام الهجرات من الخارج، وبات توطين الإسلام في أوروبا الغربية، أمرًا واقعًا يتجانس مع دين أوروبا التاريخي (المسيحية)، ما يملي عليك التمعن كثيرًا في قدرة الانفتاح لا الانغلاق، في بناء الحياة والكف عن الشعور بالنقص أمام الآخر، والتشكيك الدائم في أهدافه، واعتباره عبر أفكار مسبقة متآمرًا، يسعى إلى تدمير ثقافتنا ومعتقداتنا.

الكاتب العراقي/ عدنان أبوزيد

مقالات ذات صلة

‫21 تعليقات

  1. قود التسامح أوروبا، إلى إزالة السدود أمام الهجرات من الخارج، وبات توطين الإسلام في أوروبا الغربية، أمرًا واقعًا يتجانس مع دين أوروبا التاريخي (المسيحية)،

  2. تاريخيًّا، فانّ ذلك حدث يومًا على أيدي العرب المسلمين، في الأندلس، حين ذاب العرب في الأرض التي وفدوا إليها، وتعلموا ثقافتها،

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88