إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

قضايا وأبيات… ( تحرير أم تغرير ؟! ) 1

الخط الفاصل في المنظومة الاجتماعية بين مجتمعنا الإسلامي والعربي والمجتمع الغربي المنسلخ والمتسخ فكريًا نراه بيّنًا واضحًا في قضية المرأة وحقوقها، فقد راح قومٌ من بني جلدتنا يلتّون ويعجنون ويزعمون أنّ الإسلام أهمل حقّ المرأة وشراكتها مع الرجل بما يناسبها، وأغمضوا عيونهم عن حقيقة واقعها في المجتمع الغربي، فهي أشبه بالسلعة التي تباع وتشترى حسب ما تقتضيه الأهواء والمصالح، ولم يكن الإسلام في تعاليمه كما يزعم هؤلاء المفترون عليه، وإنّما العلّة في بعض من ينتسبون إليه، إذ جعلوا من عادتهم تعاميم ومن تقاليدهم تعاليم ظنّوا جهالةً أنّها من الدين، فأصبحوا يفرضونها على المرأة فرضًا، والإسلام بريء منها، فزعم أولئك عن جهالةٍ أو عن خبثٍ أنّها من الإسلام، وما هي بتلك.

ولهذا دعا المغرضون أو المخدعون إلى ما يسمى بتحرير المرأة وفكّها من القيود التي طالما نعقوا بها مردّدين، ومتّهمين بذلك سماحة وحكمة الدين أنّها تشدّد على النصف الآخر من المجتمع، ولكن الحقيقة تقول: إنّ الإسلام أكرمها وزاد في إكرامها، حين حفظ لها حياءها، وصان عفّتها، وأعطاها حقوقًا تتناسب مع طبيعتها وتركيبتها وخِلقتها، ومن قارن بين حالها في الجاهلية ووضعها بعد شروق الإسلام أدرك هذا الأمر، ولكن لأولئك أطماع أخرى، بدأت بالدعوة إلى تعليمها – وهذا حقّ لا يرفضه الدين، بل يرفضه الجهلة به – واستمر الطمع ولن ينتهي من أولئك الذين يضحكون على الناس بالحقوق وليس هم في الحقيقة إلا نعيق غربان مستغربة، صداه يردّد ما يملي عليه العدوّ الغربي، لأنهم يرون المجتمع الغربي مثلًا أعلى لهم اجتماعيًا لا علميًا ولا تقنيًا ولا صناعيًا، حتى حصدوا بنعيقهم ما يأملون، فزاحمت المرأة الرجل واختلطت به دون مسوّغٍ شرعي، ليستوحش الحياء، ويُمزّق الحجاب، ويبرز للنظرة السفور، فابتنت العفّة القبور، بعد أن كانت طمأنينةً في الدور، مع أنّه كان مدخل أولئك حقًّا وعظيمًا ومهمًا لحياتها ألا وهو التعليم !.

ولست في مقالي هذا بصدد ذكر الحلال والحرام في ذلك، فأهل التخصص له أهله، وإن كان الحقّ في هذا أوضح من شمسٍ تملأ الأرض نورًا، حتى لترى أشعتها تضيء كوخًا، تنفذ من ثقبٍ له، لا يسع قبضة اليد، فالقضية محسومة عقلاً ودينًا وفطرةً وتجربةً ونتيجةً، وإن رأيتها تلبّست على البعض فالعلّة فيه، لا في رجاحة عقلك، وبصيرة قلبك، ونقاوة فكرك.

وإنما أنا بصدد طرح آراء بعض الأدباء حول بدايات هذا القضية، وتوجّهات بعضٍ ممّن اشتهر منهم شعرًا ، فأقول: كان للأدب بدايةً مع هذه القضية تجاذب بين السلب والإيجاب تمثّل في فريقين: الفريق الأول ثائرٌ على الحجاب ويرى فيه سجنًا يبقى المرأة متخلّفة، وأنّ الحجاب سبب في عدم تثقيفها، وأنّه لا يقي العفّة حجاب، ولكن بالتثقيف تصان العفّة، وكان ممّن يمثّل هذا، سيء الذكر الشاعر العراقي جميل الزهاوي ت ١٣٥٤هـ ، لا جمّل الله له حالًا حيث قال:
أسفري فالحجاب يا ابنة فهرٍ
… هو داءٌ في الاجـتـماع وخـيـمُ
– قلت : الداء أن تأخذ برأي يخالف الواقع والتجربة.
كلّ شـيء إلى التـجـدد ماضٍ
… فـلـماذا يـقــرّ هــذا القــديـم ؟!
– قلت : لأنّ القديم طهرٌ يحفظ التربية، وأصالة يرفض عمى التقليد، ولا بأس في التجديد ما لم يهدم الأخلاق.
أسفري فالسفورُ للناس صبحٌ
… زاهرٌ .. والحـجاب لـيـلٌ بـهيـمٌ
– قلت: التجربة أثبتت العكس، فلم نرَ في وطننا العربي تقدّمًا يقوده السفور، ولم نرَ معه النور منذ دعوتك إليه قبل خمس وثمانين سنة حتى يومنا هذا، فلا تقدّم صناعي ولا تقني ولا علمي سوى تبعية تعيق تقدّمنا وتحول بيننا وبين تصدّر ركب الأمم، فلو نُزعت التبعية لا الحجاب لرأيت حضارة العرب والمسلمين تتّزعم الحضارات.
أسفري فالسفور فيه صلاحٌ
… للـفـريـقيـن ثـم نـفـع عـمـيـم
– قلت : بل موت قلوب وضلال وضياع أسر، فأي صلاح تقصده، أفي ذهاب الحياء، وقتل الرجولة ؟!
زعموا أنّ في السفور انثلامًا
… كذبوا .. فالسـفور طهرٌ سليمُ
– قلت : صدقت، فصرخات المرأة الغربية تشهد لك، فالكذب ما خطّه قلمك، وما أملاه عليك قلبك !.
لم يقل بالحجاب في شكلهِ
… هذا نبي ولا ارتضاهُ حـكيمُ
– قلت : من اليهود طائفة تسمى”الحريديم ” لا تزال ملتزمةً بالنقاب، لأنها حفظت ذلك عن توراتها، ولم نرَ إعلاميّاً واحدًا أو شاعرًا سفّهها.
لا يقي عفةَ الفتاة حجابٌ
… بل يقيها تثقيفها والعـلوم
– قلت : التثقيف لا يحصّن العفّة والدليل رأيك السقيم، فثقافتك لم تمنعك من سفاهة سفور دعوتك، ولم تعفّ لسانك عن اتهام الدين.

وإذا علمت هذا أيّها القارئ الكريم؛ فلا تعجب من ثناء عميد الأدب (الغربي) لا العربي طه حسين عليه حيث قال: ( لم يكن الزهاوي شاعر العربية فحسب ولا شاعر العراق بل شاعر مصر وغيرها من الأقطار، لقد كان شاعر العقل.. وكان معري هذا العصر.. ولكنه المعري الذي اتصل بأوروبا وتسلّح بالعلم )، وهذه عادة هؤلاء الورّاقين -لا الكتّاب – يلمّع بعضهم بعضاً، وإلّا أين ذهب المتنبي وشوقي وحافظ والبارودي وإسماعيل صبري، أم أنّه فكرٌ وافق فكرًا، فكان الثناء على حساب قيمة الأدب والنقد، ولاحظ كيف عظّم فيه الشاعرية لأنّه اتصلّ بأوروبا، فعلًا عميد برتبة غريب، جعلته أوروبا عميد أدبنا وما هو بذاك، فمن يشكّك بتراثنا العربي هل يستحقّ أن يكون عميدًا له !!.

وأعجب من هذا أن ترى الشاعر الزهاوي نفسه كما قال عنه عباس محمود العقاد : ( قد كان نصير السفور الأكبر يخاطب زوجته من وراء ستار كثيف يحجبها عن النظر )، إنّها نظرة لبرالية خبيثة ترضى لغيرها ما لا ترضاه لنفسها وإن ادّعت عكس ذلك، وقد تبع الشاعر معروف الرصافي ابن بلدته في هذا الرأي إلّا أنّه كان أقلّ حدة في نظرته، وفي المقابل كانت الردود كالصواقع المرسلة على هذه الدعوات المبطّنة، ومن تلك قصيدة الحجاب لعبدالحسين الأزري العراقي ت ١٣٥١هـ، إذ يقول منها :
أكـريــمـــة الـزوراء لا يــذهــب بــك
… الـنهــج الـمـخالف بـيــئـة الزوراءِ
أو يــخـدعــنّــك شــاعرٌ بــخـيـالــه
… إن الــخــيـال مــطـيّـــة الشـــعــراءِ
حصروا علاجك بالسفور وما دروا
… أن الـذي حصــروه أصــــل الـــداءِ
أولـم يــروا أن الـفـــتاة بطــبــعـها
… كالـماء لم يحـــفــظ بـغــيـر إنـــاءِ
إنّ الفــــتاة جمـــالـــها بحــيائــها
… حسن الـمحيا ما اكتـسى بـحياءِ
من يكفل الفتــيات بعد ظـــهورها
… مما يجـــيش بخـــاطر السفـــهاءِ
إلى أن يقول مذكّرًا أن الحجاب فريضة، وأنّ تأويل الزهاوي جهلٌ مركّب :
نصّ الكتاب على الحجاب ولم يدع
… للـمـــسلمين تبــــرج الــــــعـــــــذراءِ
ما يصنع العلــــماء في تـــأويل ما
… لم تخـــــف غـــايتــــه على الجهلاءِ
ثمّ يقف متسائلًا عن مشكلة الزهاوي في الحجاب :
مــاذا يريبــك من إزارٍ مــانـعٍ
… وزرَ القــلــوبِ وضـــلّـة الآراءِ
ماذا يريبك من حجاب ساترٍ
… جيد الفتـــاة وطلعة الذلـفاءِ
وقبل أن يختم قصيدته يضع حقيقة لا تخالطها الشكّ إذ تنمو مع الأيام !.
هل في مجالسة الفتاة سوى الهوى
… لو أصـدقـــتك ضــمـــائر الجـــلساءِ
ثم يختم مناديًا وطنه أن يتجاهل هذه الدعوة فهي معول هدم تفكّك لبنة المجتمع :
أسفينة الوطن العزيز تبصري
… بالقــعر لا يـغـررك سـطـح الماءِ
وحديقة الثمر الجني ترصدي
… عبــث اللصوص بليــلـةٍ ليلاءِ

أما الطرف الثاني فهم الداعون إلى تثقيف المرأة مع صون حجابها والأخذ بما أمر به ربّها، ومن أبرز من عالج هذه القضية في قصيدة جميلة، الشاعر الكبير حافظ إبراهيم رحمه ﷲ فكان رأيه منصفًا لها، إذ حسم قضية تعليمها بشكل خاص، كما كانت رؤيته في حقوقها أشمل وأعمّ، إذ يقول في قصيدته التي مطلعها :
كَم ذا يُكــابِدُ عاشِـقٌ وَيُلاقي
… في حُبِّ مِصرَ كَثيرَةِ العُشّاقِ
إلى أن قال مظهرًا قيمة الأمّ في المجتمعات وأنّها أساس بنائه أو هدمه :
مَن لي بِتَربِيَةِ النِساءِ فَإِنَّها
… في الشَرقِ عِلَّةُ ذَلِكَ الإِخفاقِ
الأُمُّ مَـــدرَسَةٌ إِذا أَعــــدَدتَــها
… أَعدَدتَ شَعباً طَيِّبَ الأَعــراقِ
الأُمُّ رَوضٌ إِن تَعَــهَّدَهُ الحَيا
… بِالــرِيِّ أَورَقَ أَيَّــمــا إيـــراقِ
الأُمُّ أُسـتاذُ الأَسـاتِـذَةِ الأُلى
… شَغَلَت مَآثِرُهُم مَــدى الآفاقِ
ثمّ يدعو لصون كرامتها وعفافها والحفاظ على قيمتها في المجتمع فيقول :
أَنا لا أَقولُ دَعوا النِساءَ سَوافِراً
… بَيـنَ الرِجالِ يَجُلنَ في الأَسواقِ
يَدرُجنَ حَـيـثُ أَرَدنَ لا مِـن وازِعٍ
… يَحـــذَرنَ رِقــبَتَهُ وَلا مِــن واقــي
يَفـــعَلنَ أَفعــالَ الرِجـالِ لِواهِياً
… عَن واجِــباتِ نَــواعِسِ الأَحداقِ
في دورِهِنَّ شُــؤونُهُــنَّ كَــثيــرَةٌ
… كَشُــؤونِ رَبِّ الـسَيفِ وَالـمِزراقِ
وفي المقابل يستنكر على الذين جعلوها متاعًا فضيّقوا عليها، ولم يخلقوا لها مجالاتٍ تناسب طبيعتها وبيئتها :
كَــلّا وَلا أَدعــــوكُـــمُ أَن تُســـرِفـــوا
… في الحَجبِ وَالتَضيـيقِ وَالإِرهـاقِ
لَيسَـت نِساؤُكُمُ حُـــلىً وَجَــواهِـراً
… خَوفَ الضَياعِ تُصانُ في الأَحقاقِ
لَيــسَت نِـســاؤُكُمُ أَثــاثــاً يُقـْــتَنى
… في الــدورِ بَيـنَ مَـــخادِعٍ وَطِـــباقِ
تَتَــشَــــكَّلُ الأَزمـــانُ فـــي أَدوارِها
… دُوَلاً وَهُـــنَّ عَلى الجُـــمـودِ بـواقي
ويختم أبياته بتوسّطٍ لا محاربة فيه للشرع والفضيلة، كما أنّه يعود على الفتاة بالقيم النبيلة بقوله :
فَتَوَسَّطوا في الحالَتَينِ وَأَنصِفوا
… فَالشَرُّ فـي التَقـــييدِ وَالإِطــــلاقِ
رَبّوا البَناتِ عَلى الفَضيلَةِ إِنَّــها
… في الـمَوقِـــفَينِ لَهُنَّ خَــيرُ وَثـاقِ
وَعَلَـــيكُــــمُ أَن تَـستَـــبينَ بَناتُكُم
… نورَ الهُدى وَعَلى الحَياءِ الباقي

وعمومًا الخِلال الكريمة والصفات النبيلة لا تصدر إلا مطبوعة أو متطبّعة، قوامها التربية الصالحة، ومنشؤها القدوة الصادقة، لا المتصنّعة التي تلوح حينًا لهدف وتغيب كثيرًا لأهداف، والفضيلة رِدفٌ للشمائل الحميدة، بل هي لبّها، وهي كالغصن الذي مهما جذذته من شجرته عاد مرّة أخرى أجمل نضارةً وأبهى لونًا، ﴿ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنَا ﴾ على فطرةٍ سليمة وإيمانٍ صحيح ومعرفةٍ وضّاءة تورد النفس سعادةً تنعم بها في الدارين، ولهذا كان لشوقي رأي خاص يلخّصه هذا البيت :
إِذا لَم يَستُــرِ الأَدَبُ الغَــواني
… فَلا يُغني الحَريرُ وَلا الدِمَقسُ

( قَفْلَة الجَلْسَة )
انطلقت أول مسيرة نسائية تقودها امرأة مسلمة ضد الحجاب في العالم العربي من الكنيسة المرقُـصِـيَّة بمصر سنة 1920م، فما دخل المسيحية بحجاب المرأة المسلمة ؟!.
الجواب : لا عجب فقد كانت وصية السياسي البريطاني غلادستون ت 1889م: ( إذا أردنا أن نقضي على الإسلام فلا بدّ أن ننزع حجاب المرأة المسلمة ونغطّي به القرآن ).
‏لذا أقول :
‏أنتِ الربيع، وما الربيعُ سواكِ
… مـا دمــتِ تـروي قلــبكِ بـتقاكِ
‏لا تكسري حُلَل الحياء بـنزعهِ
‏… إنّ الحــجاب حصانــةٌ لهُـداكِ
————————————
بقلم الأستاذ / إبراهيم الوابل – أبو سليمان
‏ibrahim7370@
السبت – الموافق
١٥ – ١ – ١٤٤١هـ
١٤ – ٩ – ٢٠١٩م

# مقال يصدر كلّ أسبوعين من تأريخه

مقالات ذات صلة

‫40 تعليقات

  1. لغة رصينة وتعبير جميل واتاول جيد للموضوع.. فعلا منظومتنا الإسلامية عصية على النقد لأنها لا تضم بين دفتيها معلومات وأفكار فقط كما قد يعتقد البعض، ولكنها تضم حقائق كونية صالحة لكل زمان ومكان..

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88