إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

من وحي سورة الكهف (2): قتل الخضر للغلام.. سؤال ودرس(*)

  أعزائي القراء الكرام:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وطابت أوقاتكم بالخير والعافية والسعادة والتوفيق.

يأتي (اشتياري) إليكم تتميمًا لموضوع الأسبوع الماضي عن قصة قتل الخضر (الرجل الصالح) للغلام، من حيث الشبهة التي تثار حول هذه الحادثة، والرد عليها، والدروس المستقاة منها.

وهذا رابط للجزء الأول من المقال المنشور الأسبوع الماضي، وأقترح قراءته قبل الشروع في قراءة موضوع اليوم، لمن لم يسبق له الاطلاع عليه:

https://www.alhtoon.com/162262/

*********************

أمَّا في هذا الموضوع، فأعرض للحديث عن الدرس/ الدروس التي يمكن استفادتها وتعلمها من حادثة (قتل الغلام). قد يتبادر للذهن أن الدرس متعلق فقط بنبي الله موسى -عليه السلام- كونه هو طَالِبُ العِلم من المُعَلّم/ الرجل الصالح/ الخضر عليه السلام، ولكن -والله أعلم- بوسع أي شخص أن يتعلم درسًا أو أكثر من ذلك الحدث الملفت للاهتمام.

ومن تلك الدروس: قتل التعلق بأي شخص، شيء يصد عن سبيل الله عز وجل، ووحدانيته وعبادته.

إن من رحمة الله بوالِدَي الغلام، أن الله سبحانه وتعالى أمَر الخِضر بقتله؛ لكي لا يرهقهما طغيانًا وكفرًا. ومعروف عادةً أن تعلق الأبوين بأبنائهما هو من أعلى درجات التعلق، وعندما تقضي الإرادةُ الإلهيةُ بقتل هذا الغلام حفاظًا وحمايةً للدين، فالمسألةُ تستحق التوقف، وتستدعي مزيدًا من التأمل.

وعندما نقول بــ (قتل التعلق)، فإننا لا نعني أن يقوم أي والدٍ بقتل ولده، أو أي ولدٍ بقتل والَدِهِ مظنةَ أن التعلق به يصد عن سبيل الله، كما يفعل الدواعش، ومن هم على شاكلتهم في الضلال، شرعةً ومنهاجًا.

الخِضْر في الأعم والأغلب لن يأتي ثانية بعلم لَدُنِّيٍ، ويقوم بقتل أيِّ غلامٍ أو شخصٍ أصالةً، أو وكالةً عن فلان أو علَّان، كما أنَّه لن يُبْلِغَ أحدًا بضرورة قتل أحدٍ لذات الغرض، إنَّ قتل الخضر للغلام حالةٌ استثنائيةٌ وحيدة وفريدةٌ لا تنسخ أو تسنسخ، ولا يقاس عليها، فالرجل مخولٌ بعلمٍ لدُنيٍ وسلطةٍ ربانيةٍ لم تؤت لأحدٍ غيره لا من قبل ولا من بعد.

الشرائع السماوية كلها تعظم حرمة النفس الإنسانية، ولا تبيح سفك دمها إلا بحقٍّ بيِّنٍ، صريحٍ وواضحٍ، محددٍ ومعلومٍ سلفًا، يحكم به قاضٍ مؤتمن عالم بأحكام الشريعة، أو أن يكون قتلها دفعًا لاعتداء لم يكن بالإمكان تلافيه، أو نحوٍ من ذلك.

وبما أنَّ الحالة هذه، فكيف لنا “نحن” أن نقتل التعلق؟

قتل التعلق يكون بقتله في سويداء القلب، وحنايا الروح، وجوانح المشاعر وليس غير، انطلاقًا من قوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ۖ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ أولئك حِزْبُ اللَّهِ ۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة المجادلة 22].

وقال تعالى أيضا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ۚ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ۚ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [سورة التغابن 15]. ومن قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا ۖ وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۚ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [سورة العنكبوت 8].

قتل التعلق أيضًا محدود، ومقيدٌ بالتيقن من أن بقاء ذلك التعلق مفضٍ، ومؤدٍ لامحالةَ إلى صدٍّ وكفرٍ وإعراضٍ عن سلم الهداية والرشاد الذي أعلى درجاته التوحيد.

والأنبياء عليهم السلام، لم يكونوا بِدعًا من الناس في الابتلاء بالتعلق، فها هو سيدنا نوح يتعرض لاختبار رباني:

قال تعالى: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ ۚ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ ۚ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ۖ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ۖ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ۖ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۖ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)} [سورة هود].

فالله حذَّر نوحًا عليه السلام من التعلق بابنه الكافر، ونوح تاب وأناب. وسيدنا إبراهيم، وابنه إسماعيل عليهما السلام عاشا هذا التحدي الإيماني العسير، ولكنهما بعون الله تعالى، ثم بقوة إيمانهما تجاوزاه.

قال تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)} [سورة الصافات].

كاد تعلق سيدنا نوح عليه السلام بابنه، أن يَضُر به، بينما تحرر سيدنا إبراهيم عليه السلام وابنه من التعلق، عاد عليهما بخير عظيم.

وتعلق يعقوب عليه السلام بابنه يوسف مشهور ومعروف.

والتعلق المذموم والمنهي عنه لا يقتصر فقط على تعلق الآباء والأمهات بأبنائهم أو العكس، بل يمتد لصورٍ شتى، ومنها (المال، والجاه، والمنصب، والمكانة الاجتماعية، …ونحو ذلك).

قال تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)} [سورة التوبة].

ففي كلِّ زمانٍ، وزماننا هذا بالذات -فيما نعلم- كثر التعلق بعروض الدنيا؛ ضروراتٍ وكمالياتٍ، وكثر بذلك الإعراض عن سبيل الله وهديه، وبالتالي ظهر الفساد في البر والبحر، فكم من مسؤولٍ يرتشي، وكم من امرأةٍ تبيع عرضها مقابل عرض زائل من عروض هذه الحياة الفانية، ولو تم الإجهاز على هذا التعلق مسبقًا، لما آلت الأمور إلى كل هذه المآلات السيئة.

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ ۚ كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [سورة النساء 94].

سورة الكهف العظيمة، تتحدث عن فتنٍ مختلفةٍ، ومن تلك الفتن فتنة (التعلق) على إطلاقها، وتلك لعمري فتنةٌ وأيُّ فتنةٍ!، ولعله من نافلة القول الإشارة إلى أنَّ علماء النفس وأطباءه، وكثيرٌ من رواد التنمية البشرية، والبارعين في فنون التطوير الذاتي، يحذرون من كثير من أشكال التعلق، ويصفونها بـــــــــــــ (المَرَضِيَّةِ)، ويؤكدون على حقيقة القول: (أحبب حبيبك هونًا ما، عسى أن يكون بغيضك يومًا ما، وأبغض بغيضك هونًا ما، عسى أن يكون حبيبك يومًا ما).

لذا لم يكن عجبًا، أن قراءة هذه السورة أو بعض آياتها يقي المسلم من فتنٍ عظيمةٍ حاضرةٍ وقادمةٍ، والتعلق واحدة من تلك الفتن، بل قد يكون قاسمًا مشتركًا فيها جميعا.

كفار قريش كانوا يؤمنون بتوحيد الربوبية، ولكنهم رفضوا توحيد الألوهية، وهم قاب قوسين أو أدنى منه، وما ذلك إلا لأنه ينسف مصالح لهم، تعلقت بها قلوبهم، ومنها أموال التجارة والسياحة الدينية -إن صح التعبير- التي كانت تُدِرُ لهم دخلًا وصيتًا، وتمنحهم إيلافًا يؤمن قوافلهم في رحلتي الشتاء والصيف.

إن مصالحهم تلك، وتعلقهم بها جعلهم يسمحون لكلِّ قبيلةٍ أو مجموعةٍ من النَّاس وضع أصنامهم وأوثانهم بجوار الكعبة المشرفة بيت الله الحرام. ثم إنَّ قريشًا كانت تعلم أنَّ  في اتباعهم ودخولهم الدين الإسلامي -فيما لو حدث-، سوف يطيح بمعايير السيادة والعزَّة المغلوطة تلك، التي يتباهون بها أيَّما مباهاةٍ؛ ومنها أصالة الحسب والنسب، وكثرة العيال والمال، والتي يتعلقون بها ويقدسونها كثيرًا. كما أن قيم الإسلام الحقِّ -فيما لو اتبعوه- يجعل (الملأ) منهم على نفس الدرجة الاجتماعية -إن لم يكن أدنى- مع بلال بن رباح الحبشي، وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي، وعمار بن ياسر وأمه وأبيه “رضي الله عنهم”، وغيرهم كثيرٌ، لأن (أكرمكم عند الله أتقاكم).

وهكذا نرى خطورة التعلق الفاسد، كيف يصد عن الحق المبين.

ونختم هذا التأمل بدعوة القارئ الكريم للتأمل في آيةٍ أخرى من آيات هذه السورة، تتسق وموضوع التعلق، وهي قوله تعالى موجهًا نبيَّه عليه الصلاة والسلام، والأمَّة من بعده:

{اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [سورة الكهف 28].

نسأل الله السلامة والعافية والثبات على الرشد.

————————————————————-
(*) من كتابي: (من وحي سورة الكهف.. تأملات ورؤى).
للحصول على نسخةٍ ورقيةٍ من الكتاب، يرجى التواصل مع الكاتب: واتس آب: ” 0591662126″
———————————————————–

☘️??☘️??☘️??☘️??☘️??

بقلم الأديب والباحث والمترجم/ خلف بن سرحان القرشي

#خلف_سرحان_القرشي 

السعودية – الطائف – ص. ب 2503  الرمز البريدي 21944

ايميل:  [email protected]

تويتر @qkhalaf

مقالات ذات صلة

‫51 تعليقات

  1. أعتقد أن العلم اللدني ليس بمقدور البشر الوصول إليه، وهو علم استأثر الله تعلى بعلمه.. شرح واستبيان جميل ورائع للأية الكريمة.. أشكرك الشكر الجزيل

  2. فتنة التعلق هي من أخطر الفتن التي لا تعصف بنفسية الإنسان وحده، بل تعصف أيضًا بإيمانه.

  3. قصة الخضر مع سيدنا موسى عليه السلام دائما ما كانت تحمل قلبي على مبادئ الحياة، وتهون علي مصاعب الدنيا، فكل منا له قراءته وفهمه لآيات الله عز وجل.

  4. هكذا عهدناك؛ إما طائرًا محلقًا تأتينا بأخبار الآفاق، أو غواصًا ماهرًا تبحر وتعود إلينا بالدر الكامن من أحشاء البحر.
    لا فض فوك.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88