إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

ثقافة التطوع.. نماذج شابة

عندما صدر قرار نقل عملي في هيئة الهلال الأحمر السعودي إلى المدينة المنورة كان ذلك مع قُرب حلول شهر رمضان المبارك من عام 2009، وتم توجيهي إلى مركز باب السلام الذي يخدم الحرم النبوي الشريف ومحيطه من الفنادق والمنازل المجاورة.

أصدقكم القول كانت مشاعري مختلطة ما بين هيبة المكان، ورؤية المنارات، وصوت الآذان يحيط قلبي من كُل اتجاه، وكذلك عند رؤية تهافت جموع الزوار من الخارج وسكينة المصلين من الداخل، ينتابني شعورٌ لا يُوصف.

لا أخفيكم.. العمل في هذه المنطقة تحديدًا، يحتاج إلى جُهد بدني ونفسي عالي المستوى، وخاصةً في فترات العمرة والحج من كُل سنة، ومع زيادة أعداد الحجاج والمعتمرين تكونُ المهمة شاقة، ناهيك عن كيفية التعاملِ مع ثقافات الحجاج المتعددة والمختلفة.

وفي إحدى المناوبات وقبل دخول شهر رمضان، رأيتُ بعض الشباب يحملون حقائب إسعافية ويرتدون سُترًا، ومعهم أجهزةً تُشبه الأجهزة التي معنا، وقد دخلوا مقر عملنا وقاموا بفتح إحدى الغُرف، وقاموا بترتيب المكان ونفض الغبار عن الطاولةِ والكراسي، وكُنت أتابعُ تحركاتهم على مضضٍ وريبة، وكُنت أتساءل بيني وبين نفسي.. من هؤلاء؟ ومن أعطاهم الحق باستخدام مرافق المركز وانتهاك خصوصيتنا؟ ولأي جهةٍ يعملون؟

أسئلتي كثيرة ولم أجدُ لها جوابًا أقتنع به تمامًا.

ولكنني في الوقت نفسه كُنت معجبًا بنشاطهم وحماسهم، فكانوا كخلية النحل في تكاتفهم وتوزيع الأدوار بينهم، كانوا يمتلكون طاقةً إيجابية بالإضافة إلى ذلك كانوا لا يُحدثون أي ضجةٍ بل كانوا يحترمون المكان ويستأذنون من المسعفين دائمًا إن أرادوا استخدام شيء خارج إطار غرفتهم الخاصة، كان الأدب والاحترام أُولى سِماتهم. ازداد عددهم في اليوم الأول من الشهر الكريم، وزاد فضولي تجاه هؤلاء الشبان. وعند رفع آذان العصر خرجوا مُسرعين بكامل طاقمهم وحقائبهم إلى باحة الحرم النبوي الشريف. أمسكت يد أحدهم قبل أن يهُم بالخروج واللحاق بركب زملائه، وأخذت أرميه بوابلٍ من الأسئلة العالقة في ذهني ولم أجد لها أجوبة.

ابتسم ذلك الشاب فورًا.. وقال لي: “على رسلك يا أخي.. بعد الإفطار وبعد صلاة المغرب تحديدًا سألتقيك في نفس المكان وسأجيبك” ونادى بأعلى صوته: “هيا يا مُعتز لقد تأخرنا كثيرًا”
وقد لحق به طفل لا يتجاوز الحادية عشرة من عمره مُحملاً بحقيبةٍ ممتلئة وهو يصرخ بأعلى صوته: “حسنًا يا أخي أنا في الطريق إليك”

ورحلوا..

فتحتُ الشباك المُطل على ساحةِ الحرم، كُنت أتابع تحركاتهم خُطوةً بخطوة، حتى اتخذت كُل مجموعةٍ منهم نُقطة (تمركز) بالقرب عند كُل بابٍ من أبواب الحرم.. وفي الجهة الأخرى أرى شيخًا كبيرًا، ومعه أبناؤه وقد اتخذ أحد الأعمدة مُتكأ يقوم بتوزيع الماء والتمر على كُل زائرٍ، وعجوزٌ هناك مع بناتها تقوم بتوزيع سِلال الإفطار على العائلات القادمةِ. ما أجملَ طيبةَ وأهلها!!

وبعد إفطاري مع الزملاء وبعد صلاة المغرب مباشرةً طرق أحدهم الباب ونادى باسمي، وكان هو الشاب الذي وعدني بالإجابة عن أسئلتي. فكان سؤالي مباشرًا له.

من أنتم؟

أخبرني بأنهم شباب متطوعون لديهم دراية بالإسعافات الأولية وقد إلتحقوا بدورات تدريبيه مكثفة ليقوموا بخدمة ضيوف الرحمن، ومعظمهم طلبةَ مدارس وجامعات وأن لديهم وقت فراغ وقت الإجازات لذا يشغلون أوقاتهم بما يفيد المجتمع وزائري بيت الله ويكتسبون بعض الخبرات ويتعلمون كُل يوم أمرٌ جديد.

هل تقومون بهذا العمل بشكل دائم؟

بالتأكيد..فنحنُ نشعرُ بسعادةٍ بالغة وأحياناً تجدُنا في الإجازات الدراسية متواجدون،وخاصةً وقت صلاة الجمعة.

هل أولياء أُموركم سعداء بذلك؟

بل فخورين بنا، وهم من أسس ثقافة التطوع ومساعدة الناس وزرعوا حُب العطاء والخير في نفوسنا منذُ الصغر.

قاطعته..قائلاً: مهلاً… هل تُريد إقناعي بأنكم لا تتقاضون أي مقابل مادي نظير خدماتكم؟

كلا.. ولا نُفكر بهذه الطريقة أبدًا.

معذرة.. هل أزعجتك بهذا السؤال؟

لا عليك أخي.. نحنُ نواجه هذا السؤال دائمًا، وأجدُ مبررًا لكُل من سألني هذا السؤال، فثقافة التطوع ليست منتشرة بشكلٍ كافٍ في مجتمعنا.

ولكنني أرى أن خدماتكم محصورة عند أبواب الحرم وفي الأقسام الخاصة بالرجال فقط، هل هذا صحيح؟

نعم.. أما بالنسبة للأقسام النسائية يقوم بخدمتها متطوعات ويقومون بما نقوم به تمامًا.

الإختلاط بالزوار والمقيمين بشكل دائم ألا يُشكل هاجسًا لكم،قد يحملون معهم بعض الأمراض المعدية والأوبئة المنتشرة في دُولهم؟

نعم،ولدينا وسائل السلامة التي تفي بالغرض، وكذلك نذهب إلى المراكز الصحية لنأخذ كافة التطعيمات اللازمة لذلك.

هل هناك تضاربًا وعشوائيةً في العمل بينكم وبين عمليات الهلال الأحمر والمسعفين؟

كلا.. نحنُ لدينا قناة خاصة يتم التنسيق بيننا وبين (العمليات).. وغالبًا نكونُ في موقع الحالة (المرضية) مباشرةً أو تأتي الحالة إلى مقر (نقطة التمركز) ونقوم بعمل اللازم حتى وصول سيارة الإسعاف.

وأخيرًا.. ماهي أمنياتك؟

بصراحة.. أتمنى أن يكون هناك من يحتوي طاقات الشباب في سلك التطوع وأن يُخصص قسم ومبنى خاص بنا ونندرج تحت منظومة هيئة الهلال الأحمر السعودي، وأن يتم تزويدنا بالتموين الطبي والأجهزة المتطورة اللازمة، وعربات متنقلة تجول في ساحات الحرم وتسهيل مهمتنا في هذا العمل الإنساني.

سؤالي الأخير.. وعذرًا على الإطالة.

لِمَ تأتِ بهذا الطفل معك.. وما هو المغزى من ذلك؟

ابتسم قليلًا وقال:

هذا أخي الصغير يُصر على الذهاب معي يوميًّا، وهو في قمة سعادته، ويُجيد الآن بعض الكلمات الهندية والفارسية والتركية، ومن المفارقات أيضًا.. كنت في صغري أمتلك نفس الإصرار مع أخي الأكبر؛ ويأخذني معه، يبدو أن ثقافة (التطوع) ستكون متوارثة في العائلة.

رحل ذلك المتطوع لإكمال باقي مهمته، ويستعد للعمل الأهم فقد اقترب موعد صلاة التراويح.

أخي المتطوع وأُختي المتطوعة : يحق لنا أن نُباهي ونفتخر بكم أمام الملأ، أنتم شموعٌ مضيئة تنيرُ الدروب لنا جميعًا، وتضيفون لحياتنا حياة..

ولي أمر المتطوع: تستحق التكريم والتقدير في كُل محفل، وأن تكون في صدر كُل مجلسٍ من مجالسِ الفخر والشرف.

وحتى عام ٢٠١٩:
تحققت أُمنيات ذلك المتطوع، وقامت إدارة المنطقة في السنوات الفائتة مشكورة باحتواء تلك الطاقات من الفتيان والفتيات، وقد خصصوا لهم إدارة ذات خبرة، وعربات متنقلة، ومُجهزة، ومصرح لها بالتجول داخل ساحات الحرم وقسم خاص وكافة الاحتياجات اللازمة، بل وفي كُل نهاية موسم حجٍ أو عمرةٍ، يتم تكريمهم والاحتفاء بهم.

وصول..

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات إِنَّا لَا نُضِيع أَجْر مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا}

بقلم/ ماجد الحربي

مقالات ذات صلة

‫43 تعليقات

  1. ما يميز بلادنا العربية والإسلامية عن غيرها من البلدان هي ثقافة التطوع، حتى أنه يمكن القول أن بلادنا قامت على ثقافة التطوع وأحيلكم في هذا الإطار على ما كان يفعله أبو بكر وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما وغيرهم من الصحابة الكرام، عندما كانا يضعان كل تروثهما تحت تصرف النبي عليه أفضل الصلاة والتسليم، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على بروز ثقافة التطوع بين الصحابة رضوان الله عليهم قبل غيرها من الثقافات..

  2. رائع أن هذه الطاقات الشابة وجدت من يعينها حتى وإن مرت سنوات قبل أن يجدوا هذا الدعم، لكن المهم أنه أصبح موجودًا.

  3. فعلا هؤلاء المتطوعون يستحقون كل التقدير والاحترام، وأولياء أمورهم الذين يفقدونهم لساعات قد يكونون في حاجة إليهم فيها يستحقون أن نشعرهم دائمًا أن عملهم مقدر.

  4. ذكرني مقالك بالمقولة المنسوبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم “الخير فيّ وفي أمتي إلى يوم القيامة”

  5. “وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى”

    صدق الله العظيم.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88