إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

بغداد والمدن.. الانحدار بعيدا عن الحواضر العصرية

تغيب عن مدن العراق بشكل مفرط، الميادين الواسعة التي أضحت معلمًا ثقافيًّا وسياحيًّا، وحضاريًّا، لا غنى للحواضر العصرية عنه.

مدن يقترن اسمها بالباحات المترامية الأطراف، يلتقي فيها أبناء البلد والسواح، في ملتقى للتراث الشفوي والتبادل الثقافي، والتعارف وتلاقح الأفكار، والاستماع إلى الخطب، وأنواع الفنون، في فناء منفرج يستقطب القاصي والداني.

إنها متاحف مفتوحة بالمجان، تعج بأنواع البشر، واختلاف الأذواق، يتدفق إليها الناس، في موجات داخلة وخارجة، تضفي على المدينة رونقًا أخّاذًا، فضلًا عن كونها مشروعًا اقتصاديًّا، تدر الأرباح الطائلة، حيث المحلات التجارية، والمطاعم، والنصب، والنافورات، وأصحاب الهوايات، والمواهب.

وإذا قصدت إسبانيا، ولم تزر ساحة “بلازا مايور”، فكأنك لم تر هذه الدولة المترامية الأطراف. ورغم أنها تقع في قلب مدريد، إلا أنها تستضيف مصارعة الثيران، ومباريات كرة القدم، فيما تمثال فيليب الثالث يحدّق في الزائرين.

وينتصب أقدم نصب تذكاري وطني في بوينس آيرس في ساحة “بلازا دي مايو” التي لا يحدها بصر؛ لوسعها، فيما تغيب عن مدن العراق، ساحة مثل “الطرف الأغر” في لندن التي تخلد المعركة الشهيرة التي انتصر فيها اللورد نيلسون على نابليون العام 1805، فيما تمثالها الطويل القامة للغاية، يحضر بقوة بين الزائرين.

ويقف الزائر منذهلًا أمام سعة “ساحة تيانانمن” في بكين عاصمة الصين، التي تعد أكبر ساحة مدينة في العالم، وتدر على المدينة أرباحًا طائلة، فضلًا عن كونها جسرًا ثقافيًّا يربط بين أبناء الصين والسواح من الدول، وقد تحولت مع مرور الزمن إلى رمز وطني.

وفي حين تندثر في بغداد، أحياؤها التاريخية، ورموزها التراثية، والتي تحوّلت إما إلى حواضن مهمّشة، مهملة، أو في طريقها للاندثار، فإن المدينة البولندية كراكوف، تتوفّر على أكبر ساحة بلدة في القرون الوسطى في أوروبا والتي يعود تاريخها إلى القرن الثالث، ولا زالت تتجدد وتتطور مع الزمن، من دون إلحاق ضرر، أو تغيير في المنازل التاريخية، والقصور، والكنائس المحيطة بالساحة.

تغيب الساحات المفتوحة في العراقِ، حتى عن الأماكن الدينية المعروفة التي تجذب آلاف الزائرين سنويًّا، كما تحاصر البنايات والمشاريع التجارية والمساكن، المراقد المقدسة والمساجد التاريخية، في انسداد للأفق، يشوّه المشهد العام. وعلى هذا النحو لا يمكن مقارنتها عمرانيا، بساحة القديس بطرس أمام كاتدرائية القديس بطرس في الفاتيكان، والتي تتسع لنحو 200.000 شخص، فيما الزائرون للمراقد المقدسة في العراق، يبلغون أضعافًا مضاعفة مقارنة بهذا الرقم.

كان يمكن لساحة التحرير في بغداد، أنْ تتحول إلى “ساحة حمراء” عراقية، كالتي في العاصمة الروسية (موسكو)، تتعدّد فيها ألوان الفرجة التي يقوم بها فنانون شعبيون وموهوبون، وباعة متجولون، لكنها ومنذ تأسيسها تنتقل في مراحلها التاريخية من الفناء الواسع إلى الفضاء الضيق، لينتهي بها الأمر إلى رقعة صغيرة الحجم، لم تعد تشكل أهمية حضارية أو فنية، أو سياحية، على الرغم من كونها أقدم الساحات في الشرق الأوسط.

والميدان الكبير أو “غراند بلاس” وسط مدينة بروكسل في بلجيكا، لا يختلف في المساحة والإرث التاريخي عن ساحة الميدان في بغداد، لكن الفرق أن بلدية بروكسل جعلت منه ساحة كبرى بالابتكار المعماري، والتطوير العمراني،
والمحافظة على الأصالة، وإبقاء رموزه مثل كنيسة القديس ميخائيل، والكثير من المباني الحكومية، فيما ساحة الميدان في بغداد، تراجعت كثيرًا وفقدت أهميتها التاريخية بل وحتى حاضرها القريب.

ولكي لا تتحول المعالجة إلى مقاصد سياحية وإعلانًا مجانيًّا لمدن العالم، فإن المقال تناسى عمدًا، الكثير من ساحات المدن الكبرى في العالم، فيما الحرص على أشدّه في الإشارة إلى أن العراق في أمس الحاجة إلى استراتيجية تتبنى رسم فضاء جديد للمدن المغلقة على نفسها، فلم تعد نظريات العمران في العالم تعبأ للأبنية العالية، وناطحات السحاب، ومراكز التسوّق والمولات، قدر تشييد الساحات المفتوحة على شكل متاحف وملتقيات ثقافية وتعليمية.

الكاتب العراقي/ عدنان أبوزيد

مقالات ذات صلة

‫57 تعليقات

  1. تغيب عن مدن العراق بشكل مفرط، الميادين الواسعة التي أضحت معلمًا ثقافيًّا وسياحيًّا، وحضاريًّا، لا غنى للحواضر العصرية عنه.

  2. مدن يقترن اسمها بالباحات المترامية الأطراف، يلتقي فيها أبناء البلد والسواح، في ملتقى للتراث الشفوي والتبادل الثقافي

  3. والتعارف وتلاقح الأفكار، والاستماع إلى الخطب، وأنواع الفنون، في فناء منفرج يستقطب القاصي والداني.

  4. نها متاحف مفتوحة بالمجان، تعج بأنواع البشر، واختلاف الأذواق، يتدفق إليها الناس، في موجات داخلة وخارجة، تضفي على المدينة رونقًا أخّاذًا

  5. وفي حين تندثر في بغداد، أحياؤها التاريخية، ورموزها التراثية، والتي تحوّلت إما إلى حواضن مهمّشة، مهملة، أو في طريقها للاندثار

  6. والمحافظة على الأصالة، وإبقاء رموزه مثل كنيسة القديس ميخائيل، والكثير من المباني الحكومية، فيما ساحة الميدان في بغداد، تراجعت كثيرًا وفقدت أهميتها التاريخية بل وحتى حاضرها القريب.

  7. عندما تذكر/مجرذ الذكر بغداد، تتحرك في دواخلنا ملكة الانتماء للحضارة العربية الإسلامية، أحد أكبر الحضارات التي شهدها تاريخ البشرية، فهي الرمز والمرجع ومقر كل طقوسنا الحضارية، لكنها للأسف لم تجد الاهتمام الذي يليق بها كعاصمة كانت ذات يوم أكبر عاصمة في العالم..

  8. للأسف هذا الأمر أراه منسحبًا على كل ما له علاقة بدول العالم الثالث كما يلقبونها، فمحاولة تعويض التطور بالزحف العمراني كارثة كبرى لم يدركها أحد بالشكل الكامل بعد.

  9. للأسف نحن لم نعد نعتني بالماضي سوى بالمباهة الفارغة فنقول كنا، لكن أن نستثمره ونستلهم منه حاضرًا مزهرًا فلا.

  10. المقال يتحدث عن موضوع في غاية الأهمية، للأسف أغلب بلاد الحضارات العربية تعاني مما تعاني منه بغداد.

  11. وينتصب أقدم نصب تذكاري وطني في بوينس آيرس في ساحة “بلازا دي مايو” التي لا يحدها بصر؛ لوسعها، فيما تغيب عن مدن العراق، ساحة مثل “الطرف الأغر” في لندن التي تخلد المعركة الشهيرة التي انتصر فيها اللورد نيلسون على نابليون العام 1805.

  12. تغيب الساحات المفتوحة في العراقِ، حتى عن الأماكن الدينية المعروفة التي تجذب آلاف الزائرين سنويًّا… للأسف!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88