إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

أقوى من الحبّ لكنه قد يقضي عليها !.

تجذب الرمال الذهبية من يأنس الركون إليها والعيش والتنزهه فيها، وتسحر الخضرة بنضرتها نظر المتيّمين بتأمّلها، وتألف النفس البحر زرقته وأسراره وأعماقه بمغامرتها، وتأنس أخرى ببهاء السماء حين تنادمها الليالي مع أنجمها، فهذا الانسجام والاتساق يختلف من شخصٍ لآخر، لكنه بطبع الميول يُحدث في الروح شعوراً تعجز أحياناً أن تسجّل معانيه القصائد، ليبقى شعراً صامتاً عن الكلام، غير أنّه كافٍ أن يكون تعبيرًا بلغة أخرى بعيداً عن بلاغة الكلمة، فشغف اللقاء وطول البقاء، والابتسامة والفرح، والسكون والسكينة، والحركة والاهتزاز، وردة الفعل كلّها لغات شاعرية محتبسة الأحرف في أعماق النفس الميّالة لمثل هذا التوافق، ودليل التوافق يبرزه التسمّر عند تقليب الصور أو اقتنائها أو أخذ لقطات حفظها الماضي، فأقول :
قد تُبقي الذكرى وفاء أحبةٍ
… ولربّ صـمـتٍ بالوفـاءِ تكـلّما

والصداقة تبعث في المرء روحاً سامية ما دامت فاضلة، فربّما كانت فضيلتها سبباً في تواضع المتكبّر، وحلم الغضوب، وتسامح الفظّ، وسخاء الضانّ، فبمجرّد الاعتقاد بأن من تصاحبه يملك من الخلق النبيل ما يدفعك إلى مجاراته ومشابهته فهذا بحدّ ذاته محمدة تحسب لمثل هذه العلاقة الطيّبة، والصدق في القول منبته القلب لا اللسان، لذا الصديق الذي اختارك لمحض الصداقة لا يكذب عليك، فإن كذب فقد خان مسمى صداقته، وفي العموم الصداقة لا تخرج عن أشكالٍ ثلاثةٍ كما يرى أرسطو ( الصداقة ثلاثة أنواع : الأولى مبنية على المصلحة والفائدة، والثانية على المتعة والمرح، لكن مصيرهما الزوال، لأن الملذات والمصالح قصيرة الأمد، وتجمع الصالحين والطالحين برفاقهم. أما الثالثة فأساسها المحبّة وطيبة القلب، وهذه تجمع النبلاء فقط ).

ولمثل هذه المودّة – أي الثالثة – استبشار وحبور، وسكينة وقبول، تزداد باللقاء حلاوتها، وتسير مع الوداع دعواتها، من جبلّتها جلب المنفعة، ودفع الضرر، ديمومتها المحبّة، وبرد عيشها الطمأنينة، وفي الحديث ( الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ ) رواه البخاري، بيد أنّ للصداقة الخالصة بين رفيقين علامات ودلائل تظهر في وقتها منها: الذبُّ عن عرضه، والفرح لفرحه، والحزن لحزنه، وأن تكون المشاعر نحوه واحدة حين تحتاجه أو تستغني عنه. وأخلص من ذلك أن تكون زيارتها دون منفعة، ووفاء مثل هذا النوع من الصداقة يلوح في موضعين : عند الضيق والشدة، وعند الخصومة وسوء الفهم، أمّا العتاب فهو طرف لا يجب الإكثار منه، ندرته الزائدة مضرّة، وكثرته شفرةٌ حادة تقطع حبل الوصل، وتزيد هوّة الفصل، والحاجة إلى ندرته يغسل الوضر، ويديم الصفاء والنقاء، قال بشار بن برد :
إِذا كُنتَ في كُلِّ الذُنوبِ مُعاتِباً
… صَديقَكَ لَم تَلقَ الَّذي لا تُعاتِبُه
فَعِش واحِداً أَو صِل أَخاكَ فَإِنَّهُ
… مُفــارِقُ ذَنــبٍ مَــرَّةً وَمُـجــانِبُه

ومن عجائب ما حُكي في هذا الشأن ما قاله ﷴ بن مناذر عن الخليل بن أحمد الفراهيدي : ( كنت أمشي مع الخليل بن أحمد، فانقطع شسع نعلي، فخلع الخليل نعليه، فلمّا سألته عن ذلك قال: أواسي صديقي بالحفاء ) ، وممّا يروى عنه أيضًا، قال الأصمعي : ( دخلت على الخليل بن أحمد و هو جالس على حصير صغير، فأشار عليّ بالجلوس، فقلت : أضيّق عليك، فقال : مه، إن الدنيا بأسرها لا تسع متباغضين، و إن شبرًا في شبرٍ يسع متحابين ). والحظ العظيم عند الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي يظهر جليًا كما في عبارته : ( إنّ أشقى الناس من لا يستطيع أن يجد إلى جنبه في سَوْرَة الجزع نفساً أُخرى تجزع له بإطمئنان ليطمئنّ في جزعه، وهي الصداقة بـعينها ولا يلقّاها إلا ذو حظ عظيم ).

والصداقة قد تكون أقوى من الحبّ في البقاء، وإن كانت طريقاً إليه، لكن الحبّ دون صداقة يشلّ حركة نفسه، حتى ينتهي بالفشل أو يبقى لمجرد البقاء دون دافع حقيقي يجعله يستلذّ الحياة، لكن الأغرب أن يكون الحبّ سبباً في القضاء على الصداقة، حينما تنجرف المحبّة عن مفهومها إلى الغيرة، وربّما من الغيرة إلى العداوة ومن العداوة إلى الضرر والألم قال المتنبي :
ومن العداوة ما ينالكَ نفعهُ
… ومن الصداقةِ ما يضرُّ ويؤلمُ

فالبشرُ مع الألوان يختلفون في المشاكلة، فربّما أحب بعضهم اللون البني لأنّه تراثي المذهب، وربّما التفت إلى اللجين من اللون لأنه يستمتع برؤية الشلال ومياه الأنهار، وربّما أسرهُ البياض لأنه من عادته مباراة السحاب حيثما انهمر قطرها في التراب، والطبيعة في المشهد والمسمع والحواس لها مكنون في نفوسنا تؤثّر علينا ولا بُد، فلنخترْ لأنفسنا من الصداقة ما يجذبنا إلى الخير ويصرفنا عن الشرّ.

ــ فاصلة منقوطة ؛
” الصداقة الحقيقية كالعلاقة بين العين واليد ، إذا تألمت اليد دمعت العين ، وإذا دمعت العين مسحتها اليد ” أحمد الشقيري
———————————————
بقلم الأستاذ /
إبراهيم الوابل – أبو سليمان
‏ibrahim7370@
الاثنين – الموافق
٢٦ – ١١ – ١٤٤٠هـ
٢٩ – ٧ – ٢٠١٩م

مقالات ذات صلة

‫22 تعليقات

  1. تسلم ايدك أستاذ إبراهيم كل مقال له طعم مختلف من لدية حسن التذوق يعلم جيدا مدى قدر ما يقراء

  2. الصداقة مطلوبة في الحياة ولذلك حث عليها الإسلام ورفع من شأنها وزينها بالحب والتقدير والتبجيل والاحترام.. إلا أنه اشترط شرط الإيمان يثول الرسول صلى الله عليه وسلم “لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي”، أول كما جاء في الحديث..

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88