إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

كفّوا عنّا النَبْل حتى نغرس النُبْل !.

شدّت السنة مطيتها للرحيل، وأذنَ لشمس الدراسة بالمغيب، فبرز ضياء نجوم، واستنار الليل ببدره، وتشتت قطعٌ من غمامة الظلام، فمُزّقت خيوطٌ من جلباب الجهل، وبعد ظهور النتائج، واستلام الجوائز، دعا الطالب أستاذه، فأسرّ إليه حديثًا، مصدره المودّة والوفاء، ومورده شيمة الفضلاء، فالطالب على أعتاب مرحلة جديدة، فمن المؤكّد لديه أنّه سيفارق أستاذه الذي غرس فيه حبّ العلم، ونمّى فيه حسن القيم، إذ في ظنّه أنّه لن يراه ثانيةً، لذا استأذنه في أن يكون على تواصل معه، فطلب منه رقم هاتفه، أو أيّ وسيلةٍ أخرى تجعله على مقربةٍ منه بعد أن استقى مناهله العذبة لثلاثة أعوام من مرحلته الدراسية، فكأنّه القائل على لسان الشاعر حافظ إبراهيم :
لَكَ في دَمــي حَـقٌّ أَرَدتُ وَفـاءَهُ
… يَومَ الوَفاءِ فَقَــصَّرَت أَشــعاري
لَم يُنسِني مَرُّ الزَمانِ وَلَم يَــزَل
… حِفظُ الوِدادِ سَجِيَّتي وَشِعاري

بادرة جميلة من طالبٍ عرف قدر معلّمه، وسعة فضله عليه، تكاد لا تجد شبيهًا له في هذا الزمن الغارق في لهوه، السادر في لغوه، إنّها ثمرة العطاء، وجوهر الإخلاص، وحصيلة الصدق، وموجز التضحية، فكفى بهذا النتيجة مكافأة، لن يدرك أبعادها إلّا من غمر قلبه هدفه من التعليم، فكيف إذاً لو كان الجزاء أعظم من ذلك، دعوة تجدها أثرها ولو بعد حين، ممّن أثّرت فيه بتوجيهٍ صادق، وعلمٍ مُلهمٍ، وأملٍ مشرق، ورؤية صائبة، وخلق نبيل، وشفقةٍ ربّما لم يتحسّسها طالبٌ بين أحضان والديه، وحسبك أيّها المعلّم أن يكون الدعاء من أعظم الوفاء لك، قال عبدالغفار الأخرس العراقي :
فما قصَّرْتَ عن تقديم خيرٍ
… تُنـالُ به الـمثوبةُ والجـزاءُ
تــفــوزُ ببــرّك الآمــالُ مـنَّا
… ويُرفَــع بالأَكفِّ لك الدُّعــاءُ

فيا أيها المعلمون، فضلكم عظيم، وشأوكم كبير، وشأنكم جليل، وهدفكم أسمى، وأنتم للمجتمع أرجى، فكفى بكم ورثةً لخير البشر عليهم السلام، ومن أنقص قدركم فإنّما يُنقص من قدره، ومن أنقص قدره فقد أنقص قدر مجتمعه ووطنه، رسالتكم كفاح وإن وضعت العراقيل، وغايتكم النجاح وإن تناقضت التعاميم، فأنتم أقرب إلى عتبة التعليم من غيركم، ففرق بينكم حين تقفون أمام فلذات أكبادكم وهم جالسون، وبين من يصدرون الأنظمة فيكم وهم قاعدون، فأقول:
ولست بواعظٍ، لكـن حديثي
… حديثُ محبّةٍ، فافهمْ وصاتي

نعم أشعر بما تشعرون به من ضيم، فأنا واحدٌ منكم، أقدّر جهدكم، وأرى بذلكم، لكن ما الحيلة في زمن نسي للمعلم فضله، وأطرى للاعب هدفه، وردّد للمغني نعقه، أيعني هذا أن نغفل عن واجبنا تجاه أبناء المستقبل؟!، لا أعتقد فيكم هذا، وذلك لشرفكم وشرف مهنتكم التي تنتمون إليها، لا أختلف معكم أنّ المعلّم في معركة يجرّها إليه الكثير في مجتمعه، لكنّ بعضه لا يدرك أنّ مثله كمثل رماة جبل أحد فقد يكون الخاسر الأكبر يوماً ما، لأنّهم تناسوا أنّ من تُحيون صباحكم من أجله، وتوقدون شمسكم لفكره؛ هم من أصلابهم !. فلا عجب من هؤلاء، إنّما العجب من أولئك الذين يُهيبون بنا أن نغرس النُبْل فيرموننا بالنَبْل !. فأقول :
ما فـي التظـلّمِ من بـأسٍ لـمُحرقهِ
… ‏وإنّما البأسُ في صمتِ المضلّينا

وأكاد أجزم بل أجزم أنّ التعليم فترة الوزير الدكتور عبدالعزيز الخويطر رحمه ﷲ الأب الروحي للمعلّم كانت فترة ذهبية للمعلّم، فهيبته محفوظة، ومكانته مرموقة، فلم نسمع باعتداء عليه، ولم نقرأ عن لائحة ( حتى يطرحك أرضاً )، بل لم يُذكر لنا معلّم أُهدر دمه، فضلاً على أن التعليم في وقته كان شعلةً برّاقةً من العلم والثقافة المحفّزة للمعرفة التي لا تنضب، والسبب واضح وجلي وإن أنكر من أنكر ألا وهو احترام مقام المعلم بالدرجة الأولى، لذا لم يكن التعليم مختطفاً في فترته، بل ما نشاهده من تبجيل المغني واللاعب هو الاختطاف بعينه، فالقدوة من يربّي فيك خُلقًا، ويملأ عقلك حكمةً، ويرسم لك مستقبلاً، ويبنيك جنديًا لوطنك، ويجعلك معوانًا لأهلك، ويرفعك لواءً لأمّتك، وقد نجد جملة هذه القيم وافرةً فيمن اشتعل رأسه شيبةً، وانحنى ظهره بالتجارب، فاكتنزت صوابها الشيخوخة، فهل نجد هذه القيم في لاعبٍ دحرج كرةً أو مغنٍ نطق سفهًا، مجرد سؤال، لكن… لا يخفى جوابه عند العقلاء، قال الروائي الجزائري واسيني الأعرج : ” لا أكلمك لأحصل منك على جواب , هناك الكثير من المآسي في الحياة تكفي لوحدها كجواب , وأي اجتهاد بعد ذلك هو كلام زائد “.

ويا أحبتي، قد لا يُعجب بعضكم ما نطق به قلمي، وما رحّبت به ورقتي، فلا تظنوا به الرضا عن قرارت تصدر دون دراسة، وإلّا متى كان المعلّم شرطيًّا ينظّم حركة السير، بيد أن التعليم أُبعد عن مفهومه، الذي يجب علينا أن نعمل من أجله، وإن أُدرجت العقبات دونه، وحيل بيننا وبينه، فإلى ﷲ المشتكى، وها أنا قد أتممت الرابع والعشرين من عمري التعليمي، ووالله وبالله وتالله لم ولن أجد أعظم مكافأة من ثناء طالب ودعائه لي، وإن تراكمت في مكتبي شهادات التقدير، فأخذت حيزًا من الرطانة والتحبير، فقوله لي : ( سأفتقدك معلمي ) تعني عندي الكثير، ولتكون أخي المعلم على يقين من صدق هذا القول، قف واسأل نفسك وحدّثني بعدها عن شعورك وأنت تجد اسمك مدرجاً تحت وسم ( هاشتاق ) معلّم لن تنساه، فاترك لأولئك رمي النبال، وأدرك من طلابك صدق الابتهال، ولو وجدت أثر ذلك بعد حين.

ــ فاصلة منقوطة ؛

لـمّا رأيـتُ الحـقَّ مــنـهم ضُـيّـعـا
… صـاحبتُ صمـتاً بالدعاء تضرّعا
وأرحت خطو خواطري من أسهمٍ
… نُـبـلت بـقــوسٍ للـمــلامِـة وزّعـــا
قد شاب همّي إذ أشــاب بصبره
… حرفـي ، فقلبي بين ذاك تـمـزّعــا
جرّبت ذا التدريس أربعَ بعـدهـا
… عــقدٌ وعــقـدٌ في حياتي تتـابـعا
مـا سرّني يومٌ صحوت لشمسه
… إلّا شــبـــابٌ بالــوفـــاء تـــمـتّعــا
والله، لـومــا للــبــلاد نـُـعِــدِّهــم
… ما كـنّا للتـعلـيم نـرضـى مـرتـعـا
فكفى لنا منهم تــوسّـل دعــوةٍ
… نرجـو بهـا عند الـمهيمنِ مطـلعا
أسفاهُ .. للتعليم حيـن يحـوطه
… حِبرٌ من التضـلـيل مــاج فأفــزعا
أسفاهُ .. كيف تكسّرت أقلامهُ ؟!
… وأتـت رســالـتــه فـــلاةً بــلـقــعـا
فلـقد رأيت من الضــلال ظِــلاله
… نـاراً تـزيـــدك بالــدنــوِّ تــلسّـعـا
وذهلتُ من حيفٍ بصرحِ تـأدّبٍ
… وهـذلتُ أمشـى بالذهول مـروّعـا
في كــلّ حيــنٍ للمـعـلّم حــيـرةٌ
… من كـلّ تـعـمــيمٍ يجـيئكَ أصـلعا
وإذا تـخـرّق ثــوبُ رأيٍ مُـلْـهَـمٍ
… بقـبيح صُنــعٍ في الجهـالة رُقّعا
بالله، أيـن مفرّنا من بـؤسنا ؟!
… وغـمامـة التعـليم تـقرع مسمعا
نسعى إليه، والأمـاني تحـفّنا
… فنـرى سراباً، قد أجــفّ المطمعا
يا لائماً، شكــوى مـقام معـــلّمٍ
… إن كنـتَ لا تــدري فكــفَّ تــورّعا
إن كنت لاترضى لنفسك ظلمها
… أتلوم ( حقّاً ) بالظلامة فُزِّعا ؟!
ولئـن رضيـت لها الإساءة والأذى
… فلقد أتيــتَ من الهوانِ الأشنعا
———————————————
بقلم الأستاذ /
إبراهيم الوابل – أبو سليمان
‏ibrahim7370@
الاثنين – الموافق
١٩ – ١١ – ١٤٤٠هـ
٢٢ – ٧ – ٢٠١٩م

مقالات ذات صلة

‫50 تعليقات

  1. عن تجربة شخصية، أحن جدا لتلك الأيام الخوالي وما زلت ألقى معلمي بالحب والترحاااب والأحضان وأنا في سعادة غامرة..كل الشكر كاتبنا الغالي..نعم سأفتقدك معلمي

  2. قم للمعلم ووفه التبجيل.. كاد المعلم أن يكون رسولا.. نعم إنهم ورثة الأنبياء ومربيي ومعلمي الأجيال.. نكن لهم كل الحب والتقدير والاحترام والتبجيل.. لكن معلم اليوم ليس هو معلم الأمس.. وشتان ما بين الإثنين.. تسلم يا أبا سليمان

  3.  ” لا أكلمك لأحصل منك على جواب , هناك الكثير من المآسي في الحياة تكفي لوحدها كجواب , وأي اجتهاد بعد ذلك هو كلام زائد

  4. لـمّا رأيـتُ الحـقَّ مــنـهم ضُـيّـعـا
    … صـاحبتُ صمـتاً بالدعاء تضرّعا
    وأرحت خطو خواطري من أسهمٍ
    … نُـبـلت بـقــوسٍ للـمــلامِـة وزّعـــا
    قد شاب همّي إذ أشــاب بصبره

  5. فما قصَّرْتَ عن تقديم خيرٍ
    … تُنـالُ به الـمثوبةُ والجـزاءُ
    تــفــوزُ ببــرّك الآمــالُ مـنَّا
    … ويُرفَــع بالأَكفِّ لك الدُّعــاءُ

  6. الشكر والتقدير لكل معلم أدى أمانة التعليم وبلغ رسالة العلم وبنى جيل تنهض به الأمة الإسلامية .. وشكراً لك كاتبنا المميز

  7. التعليم مهنة شريفة لأنها تلتصق بموضوع التعليم والتربية والأخلاق والتحصيل العلمي.. لمنها في زماننا هذا فقدت بريقها وقيمتها وأصبح كل من هب ودب يمتنها.. أشكرك

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88