إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

طائرٌ بلا أجنحة لم يبقَ لريشه إلّا النتف !.

دخل فاستقبله الحضور واقفًا ، نظر إليهم فأذن لهم بالجلوس، لم تكن نظرته نظرة المتعالي، ولا استئذانه لهم بالمتجافي، يكنّ في الضمير لهم صدق المحبّة، يطمع بها لهم حسن المغبّة، يعاملهم برؤىً جليلة المعاني، واضحة المعالم، بيّنة المراسم، هدفها بناء يسهّل الطريق، لتنقذ من في جهله غريق، حكمته في التعامل معهم مبنيّةٌ على مقاصد ثلاثة : مخافة ﷲ فيهم، وشعرة معاوية، وقول كمال الديم ابن النبيه الأيوبي :
هَيْبَةٌ تَمْلأُ القُلُوبَ وَشَخْصٌ
… تَمْتَلِـي مِنْـهُ أَعْيُـنُ الجُلاَّسِ

هذا ما يتمتّع به معلّمي الأفاضل وجلّ المعلّمين قبل خمسةٍ وعشرين عامًا، بقيت مع مرور الزمن اثنتان وما زالت حتى الآن إلّا قليلًا، وتآكلت منها واحدة منذ ذلك الحين، حتى أصبحت كالرميم، بعد أن دفنها الحسد، ووارى جثمانها الإعلام بوسائله المتنوعة، وأستثني من ذلك من عرف قدرها، وأدرك أنّ من فضلها صعوده منبر رزقه، ومع الوقت سقطت من عيون الكثير في المجتمع، ولا فرق إن وقع منهم ذلك جهلًا أم قصداً، فالهيبة في جملتها جامعة لاحترام مكانة المعلّم، والثقة به، والتأكيد على أمانته، وقد كان حاله فيما بينهم كما قال ابن سهل الأندلسي :
مِلءُ المَسامِعِ مَنطِقاً مِلءُ الجَوا … نِحِِ هَيبَةً مِلءُ النَواظِرِ مَنظَرا

ومنذ الحديث عن تطبيق التجربة التعليمية في اليابان التي فرحنا بها في وقتها، ومسار التعليم يتقهقر إلى الوراء وفي هبوط وميلان، تتصدّع بنيانه، وتتشقّق جدرانه، بتجارب فقيرة التطوير، لا ندري إلى أي مدى بنا تسير، حتّى أخرجت لنا طالباً لا يُجيد قراءة اسمه وكتابته، إن قرأ ذكّرك بالدبابة اليابانية وتمتمتها عند التشغيل، وإن كتب لا تكاد تقرأ خطّه المعقّد كالطلاسم أشبه بالذرة الغامضة المقاسم، تطلب منه كتابة موضوع في التعبير فتدور به الحيرة في التفكير، وتنظر في كراسة الإملاء فتجد ألفاظها السهلة مليئة بالأخطاء، وتشرح له جملة في الإعراب، فيفغر فاه بتفاهة الإغراب، هذا إن فهم معنى كلمة إعراب، فالمناهج بعد خيالات هذه التجربة، عرّت الإعراب من لسانه وبنانه ، فلا أثر له إلّا قليلًا وما يطرحه المعلم في تبيانه، وما ذكرته قد لمسته في مجال تخصصي الذي أنتمي إليه، فكيف إذاً بالتخصّصات التطبيقية ؟!، يبدو أنّ الأمر أدهى وأمرّ، هكذا خرج كثير من الأبناء بعد خمسةٍ وعشرين عاماً من حقول التجارب، ولتقف على صدق ما ذكرت هاك وسائل التواصل الاجتماعي فتتبّع الإملاء وتقصّى الأسلوب للتبيّن حقيقة الأمر، وستجد ما يندى له الجبين !. ولا أجد أرثى لوصف هذا الوضع من قول الشاعر المصري أحمد محرم :
نشـط العـالَمُ فـي حـاجـاتــهِ
… يبتغـيها في مـجالِ الفرقديْنْ
أيُّ دنــيـا هـذه الدنـيـا الـتي
… مالنا منها سوى خُفَّيْ حُنَيْنْ

ولو عدنا بذاكرتنا للزمن الذي سبق هذه الحقول والحقبة، لوجدت جيلًا جيداً وسليماً على الأغلب في لغته وإملائه، وخطّه وإنشائه، وإعرابه وقراءته، وبيانه وفصاحته، وقد وقعت بين يديّ صورة لقطعة إملائية يعود تأريخها لعام ١٣٩٤ هـ لطالب في الصف الثاني ابتدائي، لم يدوّن كاتبها إلّا خطأً واحدًا، والخطأ نحويٌّ أكثر من كونه إملائي، ولا غضاضة في ذلك فهو لم يتعلّم النحو بعد، وهذا قصاصة ذلك الأثر البرّاق !.

فما الذي غُيّر فتغيّر ؟!، وانخرق فتأثّر، وانخرم وتهدّم، ومن المتسبّب في هذا ؟! أهي المناهج ؟!، أم المعلّم ؟!، أم الوزارة ؟!، أم المجتمع نفسه ؟!، أسئلة تحتاج إلى إجابة واعية غير متحيّزة، وفي رأيي ومن خلال تجربتي أنّ نتق جدار الهيبة، وتهميش المناهج، وبساطة الانتقال من مرحلة إلى أخرى تحت مسمى التقويم المستمر، ومن بعد هذا يأتي المجتمع نفسه، كان له الأثر الفعّال في الإسفار عن مخرجات لا ترقى إلى المطلوب، فمن المسؤول بدءًا عن الجدار المنتوق وعن التهميش المدهش وعن البساطة المضرّة وعن التقويم الغريم ؟!، أضع الأسئلة بين أذهانكم، ولكم أن تختاروا ما شئتم من إجابات، والحقّ أحقّ أن يُتّبع !. فأقول :
سألت، ولكن في السؤال كفايةٌ
… عن البحث تغني إن أردتَ جوابهُ

ومنذ مدة ليست بالقصيرة كان لبعض فئات المجتمع الذي يقوده الإعلام حديثٌ عن إجازة المعلّم ، كيف، وِلمَ، ولماذا، هي طويلة ؟!، رغم علمهم أنّ الإجازة من حظّ الطالب قبل المعلّم، ولولا الطالب ما كانت إجازة معلّمه، إلّا إن كان من رأيهم أنّ الواجب عليه الشرح لضجيج صمت الطاولات في الصف، فهذا قرار لم يصله ولم يطّلع عليه بعد، ومن احمرّت أوداجه وغارت عيناه حنقاً لطول إجازة المعلّم يدرك يقيناً أن المعلّم قد كفاه صخب أولاده أثناء الدراسة، ويتمنى لو انشغلوا عنه بمعلمهم في الإجازة، وها هي الإجازة تطير بلا أجنحة، ولم يبقَ من الطائر إلّا الريش، ولم يُنتظر للريش إلّا النتف !!. فأقول :
أخي إنّ الحديث لذو شجونٍ
… وفي الإيجاز ما يكفي حيازه
فلــولا غَـيْبَــةُ الــطـَلابِ عـنـهُ
… لـما فرحَ الـمعلّـمُ فـي إجــازه

وثمرة التعليم في جملتها تقع لمصلحة الطالب، والطالب كحوض الزرع، إن حجزت عنه الماء كان يبابًا ، وإن أمددته بالمرّ منه لم يكن ينعه وارفاً ، وإن أرويته بالماء العذب كان زاهر الطلع، زاهي اللّون، ناضج الثمر، حلو المذاق، والماء العذب باهظ الثمن، ليس كرخص المرّ منه، وأنى للماء العذب أن يتدفّق وقد وُضعت دونه الحواجز والسدود، حتّى شَرُقَت به الأرض فابتلعت أكثره مع الزمن، ليصبح في السقاية نادرًا بعد أن كان في العطاء وافرًا، وهذا أشبه بحال المعلّم الذي أثقلته التعاميم، وحاصرته القرارات، وقيّدته الأنظمة، فانشغل عن هدفه لولا جذوة الإخلاص التي تتوقّد في ضميره تجاه أبنائه الذين يرى فيهم عماد الأمّة وبنّاء المستقبل وجند الوطن، وربّما بل الأكيد ولا أغالي في ذلك إذا قلت : إنّ أكثر المعلّمين يدفع من ماله الخاص لتحريك عجلة تعليمه لتسير بأسهل سُبُلٍ ممهّدة، تشتت ركام الجهل عن الطريق، قال شاعر المهجر أبو الفضل الوليد :
رُويدَكَ لا تـأسـف ولا تتَــنَدَّمِ
… إذا أنكرَ الجُهَّالُ فَضلَ المعلِّمِ

فيا أيّها التربويون اهتمّوا بنواة التعليم – المعلّم – تطبيقاً لا تنظيراً ، فهو الشجرة التي تؤتي أكلها بالخير والبركة ، وإلّا سيتقوقع نواةً تذروها الرياح !، فمن أقسى الظلم أن تُدفن حيويّة معلّم بين محاضن التربيّة لدوافع أبعد عن مفهومها !. ، فتّشوا عن تناقض التنظير والمُنظّر وعدم النظر في حقوق المعلّم، لتدركوا لِمَ تهرّت رسالة التعليم، وأصبحت وظيفة لدى البعض بعد أن اختارها رسالة !، وأعلموا أنّ الإعلام والتعليم توأمان في بناء القيم، فمتى تصدّع بناء الأول شقّ ترميمه على الثاني، ومتى تصدّع الثاني عجز الأول عن أداء رسالته بأمانة !. قال شوقي :
إذا رشدَ المعلّم كانَ موسى
… وإن هو ضلّ كانَ السامريا

ولولا خوف الإطالة لأفضت الحديث عن هذا الموضوع لأهميته، بيد أنّه فيما يبدو لي أنّي قد قلت فأسهبت واسترسلت دون أن أشعر، لكن أغدقوا على الرياضة والترفية، لعلّها تُسهم في استخراج أجيالٍ ترسم مستقبلاً يملأ الدنيا إشعاعاً، وهيهات هيهات لوسيلة أن تدرك شرف غاية !. قال الأديب والكاتب والروائي المصري توفيق الحكيم : ( لقد انتهى عصر القلم وبدأ عصر القدم؛ يأخذ اللاعب في سنة واحدة ما لا يأخذه كل أدباء مصر من أيام اخناتون حتى الآن ).

رحم الله أبي الذي غرس فيّ للمعلّم قدره، وحفظ أمي التي أبانت لي فضله، رغم أنّهما لم يكونا بذاك التمكّن في التعلّم والعلم، ولكن … لكلّ نبأ مستقرّ وسوف تعلمون، فيامن تحطّون من قيمة المعلّم وإحسانه، لن يُبنى مجتمع إلّا باحترام شأوه ومنزلته، ولن يُهدم إلّا بإسقاط هيبته ومكانته، أما الـمال فالأرزاق بالله، ومن الله، والرازق في السماء والحاسد في الأرض !.

ــ فاصلة منقوطة ؛
قال العبقري اللّغوي سابق زمانه شيخ سيبويه الخليل بن أحمد الفراهيدي حينما قُطع عنه راتبه :
إِنَّ الَّذي شَقَّ فَمي ضامِنُ
… الـرِزقِ حَـتّى يَـتَــوَفّـانـي
حَرَمتَنـي خَيراً كَثيراً فَما
… زادَكَ في مـالِكَ حِـرمـاني
———————————————
بقلم الأستاذ /
إبراهيم الوابل – أبو سليمان
‏ibrahim7370@
الاثنين – الموافق
١٢ – ١١ – ١٤٤٠هـ
١٥ – ٧ – ٢٠١٩م

مقالات ذات صلة

‫64 تعليقات

  1. لإعلام والتعليم توأمان في بناء القيم، فمتى تصدّع بناء الأول شقّ ترميمه على الثاني، ومتى تصدّع الثاني عجز الأول عن أداء رسالته بأمانة !.. عبارة دالة ومعبرة وتحمل الكثير من الرسائل للجميع..

  2. أجدت التناص، ولم تقع في فخ القول الشهير وحده (قم للمعلم وفه التبجيلا .. كاد المعلم أن يكون رسولا)..
    رغم أنه حقيقة، أو كان حقيقة حتى انهارت مكانة المعلم..

  3. إِنَّ الَّذي شَقَّ فَمي ضامِنُ
    … الـرِزقِ حَـتّى يَـتَــوَفّـانـي
    حَرَمتَنـي خَيراً كَثيراً فَما
    … زادَكَ في مـالِكَ حِـرمـاني

    حقا إنه عبقري في اللغة والشعر

  4. لقد انتهى عصر القلم وبدأ عصر القدم؛ يأخذ اللاعب في سنة واحدة ما لا يأخذه كل أدباء مصر من أيام اخناتون حتى الآن..
    للأسف هذه من أمر الحقائق

  5. للأسف الإعلام بوسائله المختلفة غير من وعي الشعوب للأسوأ وجعلهم يظنون أنهم سيتعلمون كل شيء دون معلم!

  6. الخطأ لا ينحصر فقط في الطلاب والإعلام، فكثير من المعلمين خاصة في بلاد عربية أخرى أصبحوا مصاصي أموال، ولا يفكرون سوى في الربح حتى وإن كان على حساب الطالب وأهله وحصيلته المعرفية.

  7. والله كان لنا معلمون أفاضل تعلمنا منهم كثيرا حتى على المستوى الشخصي، وجاء الوقت الذي رأيت فيه معلمو هذا الجيل يحتاجون إلى تعليم كذلك!!

  8. أذكر أن أبي كان يخبرنا أنه من فرط احترامهم لمعلميهم كانوا يتوقفون عن اللعب عندما يمر معلميهم بطريق يلعبون فيه، فللمعلم وقاره حتى في غير أوقات الدراسة..

  9. الإعلام والتعليم توأمان في بناء القيم، فمتى تصدّع بناء الأول شقّ ترميمه على الثاني، ومتى تصدّع الثاني عجز الأول عن أداء رسالته بأمانة!

    أجملت فيها كثيرا من المواضيع والمناقشات..

  10. نشـط العـالَمُ فـي حـاجـاتــهِ
    … يبتغـيها في مـجالِ الفرقديْنْ
    أيُّ دنــيـا هـذه الدنـيـا الـتي
    … مالنا منها سوى خُفَّيْ حُنَيْنْ

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88