أحبُّ العود ورائحة المسك لا تجذبني !
لكلّ امرئ في الحياة ذوقه الخاص وطبعه الذي يتميّز به عن غيره، فهناك مثلًا من يحبّ العسل ولا يُطيق شرب العصير، وهناك من يألف الألوان الصاخبة ويأنف الألوان الهادئة، وهناك من يستمتع بمشاهدة كرة السلة ولا يأنس بمتابعة كرة القدم، وهناك من يفضّل فصل الشتاء ولا يروق له فصل الصيف، وهناك من يهيم بالسفر إلى الطبيعة من الديار بينما لا تستهويه الديار ذات الآثار، فالأذواق تتمايز، وكلٌّ يرى الميزة على ما يراه مذهبه الذي اعتاد عليه، أو رغبت فيه نفسه، فالطبائع ليست واحدة، وربما تنوّع الشيء ميلًا إليه في النفس الواحدة، فهناك من يُولع بآثارٍ دون آثار، أو بنوعٍ من العسل دون آخر، أو بلونٍ هادئٍ لملبسهِ دون سواه، قال الشاعر أبو فراس الحمداني :
وَمِن مَذهَبي حُبُّ الدِيارِ لِأَهلِها
… وَلِلناسِ فيما يَعشَقونَ مَذاهِبُ
والترفيه يندرج تحت هذا، إذ لا يعني أن تلزمني بنمطك الخاص، فلك ما تحبّ ولي ما أحبّ، لي عليك أن أحترم نمطك ما لم يكن إثماً، ولك أن تحترم نمطي ما لم يكن إثماً كذلك، فلا تلمزني على ما تهواه نفسك كالاستماع إلى الغناء في مطعمٍ أو عند إشارة أو على ضفاف البحر أو غير ذلك، فمأكلي ومركبي واستجمامي أقضيها بطريقتي لا بطريقتك، فلك خصوصيتك ولي خصوصيتي، فلا نجعلهما ذوقاً عاماً نفرضه على من لا يهتمّ بهما، فاحترام مشاعر الناس وانطباعتهم ذوقٌ آخر، الأجدر بنا أن نأخذ به، لا أن نفرض ذوقنا عليهم وهم يرفضونه، ولم يكن الإيمان – يومًا – الذي هو أسمى غاية في هذا الوجود بالإكراه قال ﷻ مخاطبًا نبيه الكريم ﷺ : ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ )، فكيف إذن بترفيه ربّما كان وزراً على صاحبه.
والترفيه في أصله وسيلة لا غاية ، تدفع السأم، وتفتت البَرَم، وتسلّي الضَجَر، وتلهي الكدر، يُجدّد النشاط بعد ملالة، ويستردّ الانتعاش بعد توانٍ، ويُشمّر للهمّة بعد استرخاء، لا يَستغفل فيضيّع الواجبات، بل يتعقّل حيثما كانت الحقوق، حتى لا يفكّك لُحمة المجتمع، فالحذر الحذر منه أن يكون طيشًا وبلاهةً يورد وحولًا من الخمول؛ فتسبح الأمّة في بركة البلادة، فلا نوم بعدها إلا على فراش وثير من الغفلة !. فالرفاهية المرادة نطمح أن تنضوي تحت سقف هذا البيت الذي قاله الشاعر المملوكي السراج الورّاق :
وَهِمَّةٍ ليسَ يُثـــنيها رَفَــاهِــيَــةٌ
… عنِ المَعالي بِحُبِّ الأَيْنِ والكَسَلِ
وقد يجتمع الذوق إلّا قليلًا في بيئة تعوّدت على طريقة تغاير بيئةً أخرى، لتكون صفة بارزة لمجتمعٍ ما، خاصةً إذا تفرّع من بذرة ثقافة أصيلة، وفكرٍ رصين، ومسلكٍ رزين، ومنبعٍ نبيل، متأصّلٍ ومتمكّن، ومتينٍ متجذّرٍ، في أفئدةٍ ترى هويّتها شرفًا لها يتمحور بعراقةٍ بهيّةٍ يحسدها عليها العالم، لما فيها من زراعة الفضائل السامية، والعناية بالشمائل العالية، وهذا ما لمستهُ في بلادي منذ حبوت فوق ترابه، واكتحلت عيناي بنضارة سمائه، وانحلّت عقدة لساني بنمير مناهجه، فانطلق قلمي على سطور ضوابطه، فدام بلداً يُضرب به المثلُ في خير المُثُل، وتنهل من مَعِيْنِهِ العذب الشِّعَاب والسُبُل، فأقول :
وطني عزيزٌ بالمكارم والعلا
… وأنا بـهِ بيـن الــورى أعـتزُّ
وما نراه من ترفيه في هذا الأيام إنّما هو عبث يقوّض بناء المجتمع المتماسك، ويطمس معالم الهوية، ويصكّ القيم بجدارٍ من التلف، ويقذف بالنماء في قاع الانحدار، وإلّا متى كان الترفيه جلّه غناءٌ ورقصٌ، وتمايلٌ ورخصٌ، ينبئكَ عن أمّة غافلةٍ، وعن الهمّة العليا جافلة، يفرح بها تربّص الأعداء، وترضي غرور السفهاء، فالمغالاة في الترفيه لن يصنع لنا طائرة تنتسب إلينا، ولا تقنية نصعد بها إلى القمر، ولا جيلاً يهابه من ينوي بالبلد الشرّ، كما يهاب أولئك المرابطين على الحدود، ثمّ أين المروءة في الذوق والإحساس بمشاعر هؤلاء وهم يحفظون وطننا ويسهرون لراحتنا، فأذن الحدود يؤذيها سماع هذا الترف، وهو أشدّ على سمعها نكالاً من طلقات سلاح العدو، فهؤلاء هم من يستحقون الوفاء دون غيرهم، كيف لا وأنا آمن في داري، وأولادي ينعمون بجواري، فجزاهم الله عنا خير الجزاء، ورحم الله منهم الشهداء، وفرق بينهم وبين من يترنّم بقوله : ( ما هقيت إن البراقع يفتنني … )، وكأنّي بهم يردّدون منشدين في جسارة وشجاعة قول الشاعر الفلسطيني عبدالرحيم محمود :
سَأَحمِلُ روحي عَلى راحَتي
… وَأَلقي بِها في مَهاوي الرَّدى
فَإِمّــا حَيـــاةٌ تَسُرُّ الصَـديق
… وَإِمّا مَمــاتٌ يَغــيظُ الـعِـدى
وإن كان من ترفيهٍ ولا بُد، فأين نصيب الأطفال منه ؟!، وإن كان من غناء فلِمَ يتراكض خلف هويةٍ غربية غريبة لا هي منا ولا نحن منها ؟!، ثمّ أين الحدائق والمنتزهات التي تكتظّ بالألعاب وقضاء أمتع الأوقات ؟!، وأين نصيب من امتدت منهم يد العوز والحاجة فقصرت عن هذا الترف ؟!، أم هو نظرة أخرى جاهلة، قد تلعب بنا أمواجه، فيذرنا في حضيضٍ، لا نسطيع إخراج أيدينا فيه إلّا ونحن لم نكد نراها ، قال الأديب مصطفى صادق الرافعي :
وأرى الحظوظَ ألفنَ كل مرفَّهٍ
… ونأت بجــانبها عن البؤساءِ
لذا لن ألزم ابني بأكل الزبادي ما دام يشرب اللبن فهو ألذّ بالنسبة له، ولن أرغمه على اللون الأزرق ما دام يميل إلى الأبيض فهو يحبّ السلام، ولن أختار له تخصّصي مادام يميل إلى التقنية فهو يجد روحه فيها، ولن أجبره على أن يكتب على طريقة الجاحظ وقد استهواه كاتب معاصر فهو يطمح للتجديد، فكلّ في فلكه يسبح، وكلّ له فكره وتصوّره وميوله، فلا ترغموا البشر على ما تهواه أنفسكم، فلولا تنوّع الأذواق لبارت السلع، وما حملني على الكتابة في مثل هذا الموضوع باختصار إلّا قول الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري :
إني رأيت القـولَ غيــرَ مرَّفهٍ
… لكن رأيتُ الصمتَ غيرَ بديع
ــ فاصلة منقوطة ؛
أنا لن أراقب أفكاري وكلامي حتى أتركك تعيش في رفاهية جهلك.
جون ستيوارت ( مذيع وكاتب ومنتج أمريكي )
———————————————
بقلم الأستاذ /
إبراهيم الوابل – أبو سليمان
ibrahim7370@
الاثنين – الموافق
٥ – ١١ – ١٤٤٠هـ
٨ – ٧ – ٢٠١٩م
✍
اطيب الطيب المسك !؟
احب المسك ورائحة العود لا تستهويني ?
تصحيح
ورائحة العود لا تجذبني
لكل انسان في الحياه ذوقه الخاص به
سلمت يداك
موضوع ممتاز
جهد مشكور
بارك الله لك
جهد عظيم
بالتوفيق استاذي
مقاله جيده
شئ جيد للغايه
رائع جدا
ما نراه من ترفيه في هذه الايام انما هو عبث
جميل جدا
ماشاء الله رائع كلمات في الصميم
لغة عربية رصينة وكأني بابن الدؤلي قد استفاق للتو من قبره أو سيبويه أو ما شئت من فطاحل اللغة العربية الكبار.. تسلم يا أبا سليمان
عبارات متناسقة وألفاظ منتقاة وتناول جيد للموضوع.. أشكرك الشكر الجزيل يا أبا سليمان
بوركت وبوركت أناملك يأ أبا سليمان.. تسلم
أوجز وأجاد… إني رأيت القـولَ غيــرَ مرَّفهٍ
… لكن رأيتُ الصمتَ غيرَ بديع
موضوع رائع ومميز
طرح رائع
قلم متميز ينثر عطرة هنا وهناك
مقال رائع
كلمات راائعه
شئ جيد للغاية
الشكر لصحيفة هتون بالتوفيق ان شاء الله
كلّ امرئ في الحياة ذوقه الخاص وطبعه الذي يتميّز به عن غيره، فهناك مثلًا من يحبّ العسل ولا يُطيق شرب العصير
هناك من يألف الألوان الصاخبة ويأنف الألوان الهادئة
وهناك من يستمتع بمشاهدة كرة السلة ولا يأنس بمتابعة كرة القدم، وهناك من يفضّل فصل الشتاء ولا يروق له فصل الصيف،
الطبائع ليست واحدة، وربما تنوّع الشيء ميلًا إليه في النفس الواحدة، فهناك من يُولع بآثارٍ دون آثار
ثمّ أين المروءة في الذوق والإحساس بمشاعر هؤلاء وهم يحفظون وطننا ويسهرون لراحتنا
فانطلق قلمي على سطور ضوابطه، فدام بلداً يُضرب به المثلُ في خير المُثُل، وتنهل من مَعِيْنِهِ العذب الشِّعَاب والسُبُل
والترفيه في أصله وسيلة لا غاية ، تدفع السأم، وتفتت البَرَم، وتسلّي الضَجَر، وتلهي الكدر
يُجدّد النشاط بعد ملالة، ويستردّ الانتعاش بعد توانٍ، ويُشمّر للهمّة بعد استرخاء، لا يَستغفل فيضيّع الواجبات
جيد جدا
مقال رائع
سلمت يداك بالتوفيق ان شاء الله
بوركت بالتوفيق
ابداع ماشاء الله
اللغة العربية الفصيحة الجميلة السليمة من الأخطاء.. تسلم
مقال يستحق القراءة
جزاك الله خيرا
بارك الله فيك
مقال مميز جدا
جهد عظيم
الشكر لهذه الصحيفة
ابدعت ماشاء الله
ممتاز سلمت يداك
بالتوفيق ان شاء الله
ابدعت
احسنت استاذي
ممتاز
بوركت
جميل جدا
مقاله مميزه
كتبت كل جميل
ما شاء الله
موضوع مهم
شكرا استاذي لهذه المقاله
مبدع استاذي
تناول جيد للموضوع
الترفيه في الاصل وسيله وليست غايه
من ابداع الي ابداع
مقال مهم في مثل هذا الوقت بارك الله فيكم وكتب أجركم