إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

الوجه الآخر للشبكة

تقول (تانيا) الأستاذة المساعدة في جامعة مدينة دبلن، والتي تدرس حرية الإنترنت وشؤون الحكم في روسيا “عندما تُبقي الناس حذرين ومتحفزين، لا يعرفون ما يمكن أن يتوقعوه منك، تكون السيطرة عليهم في غاية السهولة”.

وهو كلام خطير جدًّا، ومهم جدًّا في آن، إن اعتبرنا الإنترنت ليست مجرّد محتوى فقط، بل هي أعمق من ذلك وأعظم، إن علمنا أيضًا أن الحكومات تستخدمها للولوج ليس فقط إلى خبايا وسرائر أعدائها من حكومات دولٍ أخرى، بل إلى خبايا أفراد مجتمعاتها،  محاولة بذلك حماية أنظمتها مِن الذين تعتقد بأنهم يسعون لإفساده أو إسقاطه.

إنّ مسألة كبح الحريات لم تعد كالسّابق، تستند إلى التضييق الكلاسيكي المعهود، بل تجاوز ذلك إلى مراحل متطوّرة للغاية، خاصة مع ظهور الإنترنت، التي أتاحت فرصًا لا تعدّ ولا تُحصى للظّفر بمساحة غير محدودة من وجهات النظر قصد الإدلاء بالآراء وتقديم وجهات النّظر حول القضايا والمسائل المختلفة، التي تتستّر عليها الحكومات بحدّ ذاتها، ولا تُطلِع أفراد مجتمعها عليها، وهو الذي له حق امتلاك المعلومة، ومن ثم الردّ عليها،استهجانا أو استحسانا.

وبالعودة إلى علاقة الإنترنت ونشر المعلومات والبيانات عبرها بأجهزة الأمن المختلفة، يتّضح لنا جليًّا الأهميّة القصوى التي توليها الدول إلى هذا المجال، بل ويحيلنا إلى حقيقة أكبر مفادها: أن الإنترنت بنية تحتيّة لا يستهان بها، ومسألة السيطرة عليها من أولى أولويات السُّلطات. وتضيف (تانيا) معلقةً على ذلك الأمر: “لقد بدأوا للتو يدركون ماهية الإنترنت وكيفية عمله، إنَّه ليس مجرد محتوى معروض ومعلومات تُبث، لكنَّه بنية تحتية كذلك”.

ماذا تريد الشعوب من حكوماتها؟

لا أحد يمكنه التكهّن بما تريده الحكومات من شعوبها، نظرًا إلى تعاقب الحكومات وتوالي الحاكمين، إلاّ أنه وعلى الطّرف النّقيض، نجد أنه بالإمكان التكهّن بما تريده الشعوب من حكوماتها، وهو نفس الأمر الذي يريدونه من وسائل الإعلام، أن تتّسم الحكومات بالشفافية والصّدق؛ ليتسنى للشعوب معرفة ما يجري، واستشراف ما سيجري بعد مدة زمنية قصيرة أو طويلة الأمد. وقد وجد الملايين من البشر ضالتهم في شبكة الإنترنت التي باتت ملاذًا لهم، بالرّغم وكما أسلفنا آنفًا، (إنها لم تعد آمنة بعد أن وقعت بين أيدي الحكومة)، وإن كانت الشبكة آمنة فمستخدموها ليسوا كذلك، ويكفي أن يُلقى عليك القبض لسبب من الأسباب، وأبسطها تدوينة أو تغريدة.

الشبكة العنكبوتيّة وجه آخر للحريّة

قد لا تتّسع هذه الأسطر المعدودة للحديث عن الحريّة كمفهوم طويل عريض، ولا عن الشبكة العنكبوتيّة، والذي لا يخفى عن السّواد الأعظم منّا، وإن ما سنأتي به لن يُحدث البوْن الشّاسع في حقيقة المفهومين، اللّذيْنِ تطرق إليهما مختصّون وأسهبوا في الحديث عنهما بالتّفصيل، إلاّ أن ما أردنا إيضاحه سنلخّصه فيما سيأتي:-

الحديث عن الحرية عبر الشبكة لا تنحصر فقط في تلك المتعلّقة بالسياسة، وتأليب المحكوم ضدّ الحاكم،  أو لنقل الرعيّة ضدّ راعيها،  بل سنجد أن الحديث عن الحرية في ظلّ توفر البيئة الرقميّة وصل إلى حدود أخرى، تُطرحُ فيها أيديولوجيات مختلفة في مجالات لا عدّ لها ولا حصر، أحيانًا كثيرة نجهل مصادرها، أو المسؤول عنها من الأفراد أو المؤسسات والمنظمات، محاوِلة بذلك إحداث ما نسميه بـ(الشّرخِ) في نسيج العلاقات الإنسانيّة، فكم هم الذين انساقوا إلى عوالم تخالف تنشئتهم الأولى؛ فتعصّبوا وتطرّفوا، أو تحرّروا ذلك التحرّر الرّامي إلى الانسلاخ الكلّي والتبرّؤ التّام من قناعاتهم الأولى، والتحاقهم بأخرى تضمن لهم تجسيد ما لم يكونوا قادرين على تجسيده وهم تحت لواء ما تشرّبوه، ليجدوا أنفسهم تحت سطوة مفهوم آخر للحرية، جلبته لهم الشبكة العنكبوتية التي نجحت في استحداث نسيج اجتماعي، واقتصادي، وسياسي، وعقائدي، يتيح للجميع تحديد أولوياته بعيدًا عن السلطة التقليدية، بالرّغم من أن الإنترنت كفضاء مفتوح، يفرض سلطة ثانية بمعايير تظهر لنا أنها غير موجودة، لكن الحقيقة تثبت وتؤكّد وجودها.

ما مصير العالم لو زالت الشبكة؟

كثيرًا ما يساورني شعور بالارتياح، وأنا أطرح على نفسي هذا التساؤل، الذي يعقُبُه تساؤل آخر مفاده: ما مصير الحريّة بعد زوال الإنترنت؟ وهل ستزول الإنترنت حقًّا؟ أسئلة قد يعتبرها الكثير مظلّة للقفز بنا، ليس من الحسن للأحسن، بل من الحسن للسيّء، أو من السيّء للأسوأ، وذلك أن إشكالية زوال الإنترنت تعني زوال الكثير من الإيجابيات، لكن ماذا لو سألنا أنفسنا: كيف كان العالم قبلها؟ أعتقد أن مصير العالم غير مرتبط بمصير الإنترنت، بالرغم من أنها جعلت منه قرية صغيرة، وبإمكانها أن تجعل منه غرفة عوض قرية، وهذا ما أعتبره كبحًا حقيقيًّا للحريات. سيسألني البعض كيف ذلك؟ أجيب بما تيسّر لي من علم، لنفترض أنّني أسكن في مدينة شاسعة الأطراف والأرجاء، حدودها لا تكاد تُرى، حتّى أنّك لو أردت السير في شوارعها  ما استطعت الخروج من الشارع الواحد إلا بعد ساعات طوال، وقد لا تخرج منه لحجمه الكبير وشساعته،  وهي الحريّة التي يبحث عنها الجميع، حتى أنك لا تذكر الأشخاص والأسماء والمواقف التي مررت بجانبها.

ولنفترض أيضًا أنك انتقلت للعيش في قرية صغيرة، تُحسب مداخلها ومخارجها ومبانيها وقاطنيها في لمح البصر، حتى أنك تكاد ترسم تفاصيلها الصغيرة لأنها انطبعت في مخيلتك، وانغلقت عليها واستحكمت في إغلاقها، ولا تكاد تبوح بالقول إلا وتجده قد سرى سريان الماء بين الجداول، ألَم تُسلب حريّتك وتنتهك حتى خصوصيتك؟ كذلك هي نظرتي للإنترنت، ضيّقت واسعًا، واستحكمت القوى الكبرى على من لا قوة لها ولا طاقة ولا سبيل، وما الثورات الحاصلة في المجتمعات إلا لكونها لم تحقق تلك الحرية التي تدّعيها الإنترنت، مادام الاقتصاد محاصر، والتّعليم محاصر، وعدد الجيوش معدود، والدّين مسبوب، وما في العادات والتقاليد والإرث مردود، فالإنترنت ضربة قاضية للحريات، وسلب صارخ لها، وما سميت شبكة إلا ليسهل اصطياد الضعفاء اقتصاديًّا وسياسيًّا ودينيًّا وعقائديًّا وعلميًّا …إلخ. ولكم أن تنظروا في خلق الله، والعنكبوت خير دليل، تنسج خيوطها لتصطاد وتكبل حرية فريستها، لا لكي تمنحها المزيد من الحريّة، وكذلك بمصير العالم يفعلون.

الكاتب الجزائري/ طارق ثابت

مقالات ذات صلة

‫63 تعليقات

  1. لابد من التأكيد والتذكير في هذا المقام أن شبكة الآنترت أضحت حقا من حقوق الإنسان لا يمكن التنازل عليه، وهي أيضا تعتبر مقياسا تقاس به الشعوب والأمم مدى احترامها للحريات ولحقوق الإنسان.. وهي إلى جانب ذلك سيف ذو حدين قد تستعمل في الخير وقد تستعمل في الشر،، فنسأل الله عز وجل أن يجنبنا ويحفظنا ويحفظكم من كل شر آمين،، تشكر

  2. اصبح العالم مفتوح على بعضه من جميع الاتجاهات من خلال الشبكة العنكبوتية ولكن الانفتاح بحدد وافكار محددة ورؤية غير مكتملة وحقيقة قد تكون مزيفة

  3. دي احد اوجه الاشياء اللي بنتعامل معاها بكل يومي وتاكد استاذي ان الاشياء لها وجه اخر زي الانسان تمام لية وجه اخر

  4. اختلفنا أو اتفقنا تظل للشبكة العنكبوتية دورها في منح ما سُلب من حرية التعبير نوعيًّا إن جاز القول ذلك، وفي زوالها، بعض الشعوب ستسلب أحد أهم حقوقها

  5. الإنترنت سيف ذو حدين قد يستعمل في الخير وقد يستعمل في الشر، ولا يجب أن نقول إن أحد الحدين يطغى على الآخر، لأن هذا يعتمد علينا وعلى استخدامنا

  6. لنفترض أيضًا أنك انتقلت للعيش في قرية صغيرة، تُحسب مداخلها ومخارجها ومبانيها وقاطنيها في لمح البصر، حتى أنك تكاد ترسم تفاصيلها الصغيرة لأنها انطبعت في مخيلتك، وانغلقت عليها واستحكمت في إغلاقها، ولا تكاد تبوح بالقول إلا وتجده قد سرى سريان الماء بين الجداول، ألَم تُسلب حريّتك وتنتهك حتى خصوصيتك؟

  7. الحديث عن الحرية عبر الشبكة لا تنحصر فقط في تلك المتعلّقة بالسياسة، وتأليب المحكوم ضدّ الحاكم، أو لنقل الرعيّة ضدّ راعيها، بل سنجد أن الحديث عن الحرية في ظلّ توفر البيئة الرقميّة وصل إلى حدود أخرى، تُطرحُ فيها أيديولوجيات مختلفة في مجالات لا عدّ لها ولا حصر

  8. فكم هم الذين انساقوا إلى عوالم تخالف تنشئتهم الأولى؛ فتعصّبوا وتطرّفوا، أو تحرّروا ذلك التحرّر الرّامي إلى الانسلاخ الكلّي والتبرّؤ التّام من قناعاتهم الأولى، والتحاقهم بأخرى تضمن لهم تجسيد ما لم يكونوا قادرين على تجسيده وهم تحت لواء ما تشرّبوه، ليجدوا أنفسهم تحت سطوة مفهوم آخر للحرية، جلبته لهم الشبكة العنكبوتية

  9. تحية عميقة أزفها لأحبّتي،اخواني أخواتي،الّذين يمنحون جزءً من وقاهم الثمين لمتابعة أسطري المتواضعة .
    محبتي للجميع كل باسمه ومقامه ومركزه .

  10. بعد اخر..طرح اخر..فعلا منطق اخر، كل الاحترام لمن لا تغرقه الجزئيات ولمن لا تخيفه الكليات لتبقى الحقيقة عنده فكر قبل أن تكون عادة..أخي طارق يعطيكم الف الف عافية

  11. الحبيب و الأخ الصديق خالد عبد الرحمن،الف الف شكر على مرورك وحسن ظنك بقلمي.
    تحية قلبية خالصة .

  12. تقول (تانيا) الأستاذة المساعدة في جامعة مدينة دبلن، والتي تدرس حرية الإنترنت وشؤون الحكم في روسيا “عندما تُبقي الناس حذرين ومتحفزين، لا يعرفون ما يمكن أن يتوقعوه منك، تكون السيطرة عليهم في غاية السهولة”.

  13. ولكم أن تنظروا في خلق الله، والعنكبوت خير دليل، تنسج خيوطها لتصطاد وتكبل حرية فريستها، لا لكي تمنحها المزيد من الحريّة، وكذلك بمصير العالم يفعلون.

  14. وهو كلام خطير جدًّا، ومهم جدًّا في آن، إن اعتبرنا الإنترنت ليست مجرّد محتوى فقط، بل هي أعمق من ذلك وأعظم،

  15. إن علمنا أيضًا أن الحكومات تستخدمها للولوج ليس فقط إلى خبايا وسرائر أعدائها من حكومات دولٍ أخرى،

  16. واستحكمت القوى الكبرى على من لا قوة لها ولا طاقة ولا سبيل، وما الثورات الحاصلة في المجتمعات إلا لكونها لم تحقق تلك الحرية التي تدّعيها الإنترنت

  17. الحديث عن الحرية عبر الشبكة لا تنحصر فقط في تلك المتعلّقة بالسياسة، وتأليب المحكوم ضدّ الحاكم، أو لنقل الرعيّة ضدّ راعيها،

  18. تقول (تانيا) الأستاذة المساعدة في جامعة مدينة دبلن، والتي تدرس حرية الإنترنت وشؤون الحكم في روسيا “عندما تُبقي الناس حذرين ومتحفزين، لا يعرفون ما يمكن أن يتوقعوه منك، تكون السيطرة عليهم في غاية السهولة”.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88