إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

مَدْرَسة لم تمت

الساعة ينظر إليها لا في يده بل بين يديه ، والعيون الرامشة متسمّرة والأسماع مصغية إليه ، خطيب جالس على مقعده ، دقيق الوقت في موعده ، يلج قصة ويُخرج منها قصة أخرى ، بأسلوب سهل ينبض بالفصحى ، أحاديثه عبر ، وتجاربه درر ، لا تملّ من كلامه ونوادره ، ولا تسأم من أبياته وشواهده ، إذا تكلّم في الفقه طلاه برقة الأدب ، وإذا حدّثك في الأدب صبغه بطابع الفقه ، فهو بحقّ كما أُطلق عليه أديب الفقهاء ، وفقيه الأدباء !. فأقول :
متى يروي لـنا الشعـرَ أديبٌ
… وفي الفـقه تُجابُ به المسائل
ومن مزج الخطاب بمثل هذا
… تحرّى لـعلـمه أرقى الوسـائل

طلعته في التلفاز ثقافة عالية ، وأثيره في المذياع نباهة صافية ، وقلمه في الصحافة بحر ، وحبره في البراعة قطر ، كانت أول كتاباته عبر جريدة المقتبس ، ومنها أخذ القرّاء روافده كشعاع القبس ، درس في الشام وانتقل إلى مصر ، وجاهد ضد الاستعمار ببيانه اللوذعيّ ومداده الفطن الوعِيّ ، كان ابناً باراً لمجلة الرسالة ، كتب فيها مقالات حيّة ، وصفحات مشرقية بهيّة لمدة عشرين عاماً ، كما عمل في تحريرها مدة يسيره ، فهو مدرسة تخرّجت من جامعة الكاتب الكبير أحمد حسن الزيات في مصر ، درّس في سوريا ولبنان والعراق ومن أقواله عن الاستعمار : ( لا تخافوا الفرنسيين فإن أفئدتهم هواء وبطولتهم ادّعاء، إن نارهم لا تحرق ورصاصهم لا يقتل، ولو كان فيهم خير ما وطئت عاصمتَهم نِعالُ الألمان ) فكان عاقبة ذلك صرفه عن التدريس ، فدخل بابا آخر وهو سلك القضاء تولّى أمره مدة ربع قرن في بلدة النبك وهي في جبال لبنان الشرقية ، بين دمشق وحمص ثم في دوما من قرى دمشق ، ثم انتقل إلى دمشق فصار القاضي الأوّل فيها ، ثم كُلف بوضع مناهج الدروس في مصر بعد أن سافر إليها واجتمع فيها بالقائمين على إدارة التعليم في الأزهر واعتُمدت كما وضعها ، ومن بعدها انتقل إلى الرياض فدرّس في جامعة الإمام سنة ، وعاد إلى دمشق مرة أخرى لعملية جراحية ، فلم يلبث أن عاد إلى مكة ليمضي بها خمسة وثلاثين عاماً ، كتب في مجلة المسلمون والحج وصحيفة المدينة وأخيراً كتب ذكرياته في الشرق الأوسط مدة لا تزيد عن خمس سنين.

فاستنهلت الأفهام منه جمال العبارة ، وغزارة المعاني ، وعذوبة الأسلوب ، وعمق وحي الكلمة ، وحسن تركيب الصياغة ، ربيب لغته محبٌّ لفصاحتها ، وأريب عربيته توّاق لبلاغتها ، لم يستبق إلى باب التقوّل والتزييف حتى يمجّده الغرب ، بل كان أميناً على تراث أدب عروبته فأحبّه الشرق ، عميد في أدبه ، معتمد في نقله ، لمّاح في استنباطه ، نزيه في التقاطه ، يمد جسور سطوره من نفحات القرآن العظيم وموعظته ، ونسمات الحديث الشريف وتذكرته ، ومن لحن أشعار العرب وأمثالهم ، ومن نمير نثر السلف وكتاباتهم ، ومن واقع عصره الذي يَلهمه الاستعمار المتسلّط ، فكان يُلهمه استبداده بالنضال ضد سوسته التي تنخر فتفخر ، إذ كان يراه استدماراً لا استعماراً عبر يراعه الأدبي والتزامه الديني ، وفكره المتّقد ، وطرحه المنتقد ، ورؤيته المحافظة ، بطريقته الواعظة ، إذ يرى الاستعمار يبثّ هوان الانهزامية في البلاد العربية والقيم الإسلامية فلا بدّ للأمّة من الاستقلالية.

عرفته في رمضان وأنا ابن ثمانية أعوام ، وقد شدّني منه تقليب ساعته والنظر إليها بين برهة وأخرى ، عرفته ولم يزل للسواد والبياض جلبابهم على أشعة التلفاز ، وما زالت ذكرياته ترّن في الخاطر كلّما أقبل الشهر الكريم ، ببرنامجه الجماهيري على مائدة الإفطار ، فبقيت القنوات تتناقله عبر فضائها المترامى في كلّ طبق ، بأشعتها الموشّحة بالسواد والبياض وألوان الطيف التي أدركها فترةً من الزمن غير يسيرة ، ولم تزل الفضائيات تستفيد من هذه المدرسة الشامية رغم وفاته منذ عشرين سنة ماضية ، وقد تعلمتُ منه مسيرة الأدب وتاريخه ، وروعة البيان وفنونه ، إذا تكلّم تمنيت ألّا يسكت ، وإذا سكت فانتظر منه خطاباً أبهى من سكوته ، كان يحفظ كلامه عبر جهاز التسجيل ، وكأنّه يقول أبّث هذه الدرر ومن يدري ربما استقى منها غيري ما ينفعه ، فكان كما قال ، تجارب حكاها عن الشام إبّان الاستعمار يشهدها واقعنا اليوم ، وكأنه النذير العريان لمجتمعات الأمّة ، ولمجتمع المرأة خاصة فجزاه الله خيراً عن أمّة الإسلام خير الجزاء وأسكنه فسيح الجنان ، فأقول :
أحــاديــث نــهرٍ ، تــدفّق مــاؤها
… بذكرى ، وتبيانٍ ، وذكرٍ مع الفهمِ
لطيفٌ ، أنيسٌ ، في الخطاب مفوّهٌ
… ببرنامج ، يشدو النوادر في العلمِ
عــلــيٌّ بآدابٍ ، وســـامٍ بــرأيــــهِ
… روى لنا التغريب والمكر في القومِ
أيا ربي فارحــمهُ ، وأجـزل ثوابه
… فقد ظل نبراس التجـارب والحكمِ
وكما قال الشاعر اللبناني إلياس حبيب فرحات :
ما ماتَ من تَرَكَ الحياةَ وذكرُهُ
… عِطْـرٌ يطيرُ مع الرياحِ الأربعِ

ومن عادتي ألّا أترع كأس المديح في أحد إلّا فيمن يستحقّ ، وأنا أحسبه يستحقّ ذلك فأحسبه والله حسيبه ، ولن يدرك هذه السطور إلا من يقرأ ويسمع الظاهر والمطمور من إرثه العلمي والأدبي ، وحسبي لمن أبى عليّ الثناء عليه ، قول إلياس حبيب فرحات :
وإِذا الكريــمُ مدحـتــهُ بقــصيدةٍ
….  قــرأ اللئـــيمُ الــذمَّ في أبيــاتِــها
فامدحْ كرامَ الناسِ مغتصباً ودعْ
….  زُمرَ اللـئامِ تمـوتُ في حَــسَراتِها

وأختم بمقتطفات من أقوال الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله :
– لقد تعلمنا في المدرسة ونحن صغار أن السنبلة الفارغة ترفع رأسها في الحقل، وأن الممتلئة بالقمح تخفضه، فلا يتواضع إلّا كبير، ولا يتكبر إلّا حقير.
– لا يا ولدي، لا تحرص على هذه المهنة، أتركها إن استطعت فهي محنة لا مهنة، هي ممات بطيء لا حياة، إن المعلم هو الشهيد المجهول الذي يعيش ويموت ولا يدري به أحد ، ولا يذكره الناس إلّا ليضحكوا على نوادره وحماقاته.
– إنه لولا الهجرة لم تكن المدينة، ولولا المدينة لم تكن دمشق، ولولا دمشق لم تكن بغداد ولا قرطبة، ولولا قرطبة وطليطلة لم تكن باريس ولا لندن ولا نيويورك، فلو أنصف المتمدنون لجاؤوا يحتفلون معنا بذكرى الهجرة.

فاصلة منقوطة

فطرتُ بأصناف الموائدِ والنُّهى
… ذوائق خــيــرٍ باللذاذة عــائـمه
فما آنستْ نفسي لمثل حديثكم
… كــأن لياليــنا بــدونكَ صــائمه

———————-
إبراهيم الوابل – أبو سليمان
‏ibrahim7370@
الاثنين – الموافق
٨ – ٩ – ١٤٤٠هـ
١٣ – ٥ – ٢٠١٩م

مقالات ذات صلة

‫23 تعليقات

  1. لا تسأم من أبياته وشواهده ، إذا تكلّم في الفقه طلاه برقة الأدب ، وإذا حدّثك في الأدب صبغه بطابع الفقه

  2. لولا الهجرة لم تكن المدينة، ولولا المدينة لم تكن دمشق، ولولا دمشق لم تكن بغداد ولا قرطبة، ولولا قرطبة وطليطلة لم تكن باريس ولا لندن ولا نيويورك، فلو أنصف المتمدنون لجاؤوا يحتفلون معنا بذكرى الهجرة.

  3. قد تعلمنا في المدرسة ونحن صغار أن السنبلة الفارغة ترفع رأسها في الحقل، وأن الممتلئة بالقمح تخفضه، فلا يتواضع إلّا كبير، ولا يتكبر إلّا حقير.

  4. لا تحرص على هذه المهنة، أتركها إن استطعت فهي محنة لا مهنة، هي ممات بطيء لا حياة، إن المعلم هو الشهيد المجهول الذي يعيش ويموت ولا يدري به أحد

  5. من عادتي ألّا أترع كأس المديح في أحد إلّا فيمن يستحقّ ، وأنا أحسبه يستحقّ ذلك فأحسبه والله حسيبه ، ولن يدرك هذه السطور إلا من يقرأ ويسمع الظاهر والمطمور من إرثه العلمي والأدبي

  6. لغة رصينة وعبارات دقيقة دالة ومعبرة وتناول جيد للموضوع، تسلم يا أبا سليمان

  7. براعة كبيرة في التعبير ودقة في الوصف وتناول جيد للموضوع.. تسلم يا أبا سليمان

  8. رحم الله الشيخ لا أحد يشابهه في أسلوبه … وكلمات المقال تعبر عما في قلوب محبيه .. جزاكم الله خيراً وبالتوفيق .

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88