إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

الخفافيش الفاشلة !!.

يأتي الخريف برياحه العاتية ، وبأشجاره العارية ، فيملأ الأرض تساقط الأوراق ، ويذهل الطبيعة تسمّر الأحداق ، إذ أصبحت الخضرة بعد الربيع صُفرة ، والصُفرة بعد الصيف أسراباً من الورق تذروها الرياح ، فلا ينوبك من الأشجار سوى كآبة المكان ، وتعرّي الأغصان ، وامتقاع الألوان ، وتبدّل حالها من حالٍ إلى حال ، فبعدما كانت طلعتها بهجةً تسرّ الناظرين ، وغِرّيدها نغمة تجذب السامعين ، أصبحت عوراء جوفاء لولا جذورها الرطيبة المنغمسة في قاع البسيطة ، ومع انقباض البساط الأخضر ، يتمدّد البساط الأصفر ، آنفةً العين حدوده ، وقد غرّها منه صبغة الذهب المزيّف ، مرتسماً كزيّ للغبراء يورث لنفسك الضيق ، ويشتت لقدمك الطريق ، لتهاجره الطيور بطموحها وأحلامها وقيثارة أغانيها وأنغامها ، ورغم محاولة الورق بحفيفه في تعويض هذا الهجر ، إلّا أنّه أقصر من أن يسدّ دور بلابل تصدح وعصافير تزقزق وطيور تُشقشق ، قال صفي الدين الحلّي :
لا تأمننّ إلى الخريف وإن غدا
   عــذب الهــواء يــلــذّ للأجـسامِ
واحـذر تـواصــله إلــيك بــلـذّةٍ
   فالــداءُ يحـدث مـن ألــذّ طعــامِ

وما أشبه حال الخريف جملةً بحال ذلك المتسلّق على جناح نجاح غيره ، وذلك حين تبدو منه سَوْءَة انتهازيته ، وتلوح منه وَغْدَة استغلاليته ، لينكشف غَرَرَه أمام البشر ، فيُعلم أن القرب منه شرّ وضرر ، فكم تحيّنَ الفرص ليقف على أكتاف غيره ، واستغلّ الغفلة ليصعد بعرج سيره ، واغتنم ما يرفعه رغم وضاعته ، وما يدفعه لبلوغ طماعته ، وما ينفعه للؤم جشاعته ، فهو جبان يتحلّى بكذب شجاعته ، خمول يتزيّن بدناءة براعته ، إذا حان القطف سبق ، وقد كان كالحبر على ورق ، لا عمل له ولا إنجاز ولا فعل يستحق به الاجتياز سوى الامتطاء الذي يصنعه خبث ذكائه ، وغاية غلوائه ، على متن كفاءة المبدعين ، فلا يهتم أعدل أم ظلم ، ولا يعبأ أبنى أم هدم ، المهم أن تكون لنفسه حظوة يُرضي بها غروره ، وشهرة تذكر اسمه وحضوره ، فتعزّز الدنو من هدفه ومقصده المنشود ، وتوهم أنّه واحد ليس أحد حياله معدود !. فأقول :
عبثاً أراد وقد تظاهر مصلحاً
   ولـشهـرةٍ … يـعلو كظلّ دخانِ

وبالتأكيد أنّ لنفسه عند المال همّة تدفعه لبلوغ أربه ، حتى وإن ساء أدبه ، بغمط الكُفء حقّه ، ومصادرة المتمكّن جهده ، ليبقى دوره التهميش والإقصاء ، فلا نهي يزجره ، ولا ضمير ينهره ، كما لا تعصمه الأنانية بأن ينقضّ توقيعه على موضع توقيعك ، ولا يستحي تزلّفه من أن يريق وجه بالذلّة ، رغبةً في جاهٍ يماشيه تحت ظُلَّة ، أساليبه تتلوّن كتلوّن أوراق الخريف من الحمرة حتى تصل إلى الصفرة ، فهو للكذب صاحب ، وبالمداهنة مسترشد ، وللتربّص سبّاق ، وبالإيهام بليغ ، وللسرقة ممتهن ، وبالطرق ملتوي ، وللانتقاص خفيّ ، يغريك بطبعه الوديع ، وهو أخطر من ذئب على قطيع ، لأنّه باختصار وصوليٌّ لا يسأم طول الانتظار للحظة الانتصار !. قال أمينيموبي الحكيم المصري القديم : ( لا تفرحن من أجل ثروة تأتيك عبر السرقة ، فإن زورق الرجل الشرير يغوص في الوحل ، وزورق الرجل الأمين يقلع مع النسيم ).

وهو أشبه بشجرة اللبلاب التي يقف نموها عند أعلى الشجر أو فوق سطح الجُدر فلا تسطيع الارتفاع فوق ذلك ، لأنه ضعيف النفس ، مفلس كشخص ، أو هو أشبه بذلك القرد الذي ينتقل من شجرةٍ إلى أخرى يقضم من تلك بعض ثمارها فيرميها وينتقل إلى الأخرى فيعبث بها كأختها ، لذا هو ورم يجب استئصاله من جسدي الأمّة والوطن ، لأنه يقتل الطُّمُوح ، ويحارب الطَّمُوح ، ويُضيّق على غيره المصلحة ، ويستأثر لذاته المنفعة ، قد يسرق فكرتك من مقالة فلا ينميّها ، وهمّتك في العمل ولا يغذّيها ، فهو عالة على الجدير والأكفاء ، مستبطن للفساد والإكفاء ، نِهمٌ لا ترى منه اكتفاء ، يصعد الدرج الوعر كالطفل المدلل على ظهر أبيه ، ليبقى محسوباً على وطنه وأبناء أمته ، تجده في المكتب والملعب ، وفي المدرسة والجامعة ، وفي الوزارة والدائرة ، وفي العمل على كلّ حال وفي كلّ شأن ، وربما لعق حذاء المهانة ، ورضع ثدي الخديعة ، ليصل إلى مبتغاه ، وقد تلعب الواسطة دوراً يمكّن له ، ويفسح الإعلام مكاناً يظهر به ، ويفتح العابث مثله باباً يلج منه ، قال ابن القيم رحمه الله :  ” الخفافيش يبهرها النور وتأنس بالظلْمة ” فهو يبهره نور الناجحين ، لكنه يأنس لهم العيش بالظلام ، على أن ينتزع منهم النجاح ، فأقصى ما يقال عن هذا الخفاش المتسلّق إنّه فاشل بامتياز !.

وهذا السم الذعاف يجب حرق أوراق خريفه متى انكشف ، وإلا سيُحرق تطلّعات الأمّة ، وأمنيات الوطن ، فلا يجوز السكوت عنه ، بل يجب على الناجحين فضحه ، ورده إلى جحره ، وكشف ألاعيبه ، وعدم الرفق به ، فليس من العدل أن ترى الناجح تسلب امتيازاته ولو كان لا يحب الظهور ، وليس من الكرامة أن ترى فخر الأمة يضيع إبداعه لحساب من أفلست وبخست أخلاقه !.

– فاصلة منقوطة

يمكن لأي أحمق ومتسلط في هذا العالم أن يقتل الأفكار الإبداعية للآخرين بمجرد امتلاكه ثلاثة أسلحة رئيسة : حسد ، وغباء ، وسلطة على الأذكياء. – تشارلز بوكوفسكي شاعر وروائي أمريكي

———————————
إبراهيم الوابل – أبو سليمان
‏ibrahim7370@
الاثنين – الموافق
24 – 8 – 1440هـ
29 – 4 – 2019م

مقالات ذات صلة

‫20 تعليقات

  1. يأتي الخريف برياحه العاتية ، وبأشجاره العارية ، فيملأ الأرض تساقط الأوراق ، ويذهل الطبيعة تسمّر الأحداق

  2. وما أشبه حال الخريف جملةً بحال ذلك المتسلّق على جناح نجاح غيره ، وذلك حين تبدو منه سوءة انتهازيته ، وتلوح منه وَغْدَة استغلاليته ، لينكشف غَرَرَه أمام البشر

  3. يمكن لأي أحمق ومتسلط في هذا العالم أن يقتل الأفكار الإبداعية للآخرين بمجرد امتلاكه ثلاثة أسلحة رئيسة : حسد ، وغباء ، وسلطة على الأذكياء. – تشارلز بوكوفسكي شاعر وروائي أمريكي

  4. فلا يهتم أعدل أم ظلم ، ولا يعبأ أبنى أم هدم ، المهم أن تكون لنفسه حظوة يُرضي بها غروره

  5. ليبقى محسوباً على وطنه وأبناء أمته ، تجده في المكتب والملعب ، وفي المدرسة والجامعة

  6. لا تأمننّ إلى الخريف وإن غدا
    عــذب الهــواء يــلــذّ للأجـسامِ
    واحـذر تـواصــله إلــيك بــلـذّةٍ
    فالــداءُ يحـدث مـن ألــذّ طعــامِ

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88