إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

السفر باتجاه الحلم

قراءة نقدية في قصيدة الشاعر د. عبدالله السفياني (تناقضات قبل اكتمال الوصول)

  للناقد الدكتور/ صالح بن سرحان القرشي
—————————————-
“أنا المسافر
والأحلام تتصلُ
تدنو المسافة في عيني…ولا أصلُ

في كل منعطف
بئرٌ معطّلةٌ
والعِيسُ
من ظمأ الأوجاع تبتهلُ

والنجمُ
في زحمة الأوهام يوهمني
أن الصواب الذي أدنو له زللُ

والنهر
في عَرَصات الملح ينكرني
أنا الجفافُ
وحولي يرقص البللُ

أشباح من عبروا التاريخ
تفزعني!
وحاضري
في رماد الصمت يشتعلُ

الصامدون كأحزاني لهم أمدٌ
يسّاقطون
ومعْهم يسقط الأملُ!

ورحت أسأل!؟
ما بالكهف من أحدٍ
فالفتية الغر
من أبراجهم نزلوا!

وقفتُ
والشك يتلو فيّ سورته
ودون ما أبتغيهِ..
يضحك الأجلُ

في داخلي
للضجيج المرّ قافلةٌ
في دلوها
يتدلّى التّيهُ والوجلُ

ما زلت في الجُبِّ
لا “بشرى” تهدهدني
روايةٌ مات فيها النصُّ والبطلُ

أحنُّ للبسمة الأولى
وهودجُها بين الفيافي
إلى المجهول ينتقلُ

فإن بلغت المنى
فالله بلغني
وإن عثرتُ
فقولوا:
أعذرَ الرجلُ!”

 

 

 

الشاعر الدكتور / عبدالله بن رفود السفياني
*********************

في حضرة هذا النص نشعر نحن معشر المتلقين بأننا نسافر مع مبدعه، ففيه السفر والقافلة، وكذلك النجم الذي يدلّها، وهناك النهر الذي يعبر، وجذوة النار التي تتقد، ونجد في النص أيضًا العيس والهودج والجبَّ.

ويلوح فيه “الوصول” قريبًا، لكن محاولة القبض عليه أشبه ما تكون بمحاولة القبض على السراب، وهو سفرُ مفتوحٌ لا نعلم هل يصل فيه الشاعر فيوصلنا، أم يتعثر فنتعثر معه!
وهذا يذكرنا بقول الشاعر عبد الرحمن بن مساعد:
“مشوار ما يعرف وصول …. ولحظة بها كل الفصول”

وقوله أيضًا:
” في الأخير .. كل النهايات الفراق
ما فيه فرص ..
ما فيه نهايات بلقا .. إلا في خيالات القصص”

اصطحبنا الشاعر معه في رحلته، وكأني به يقول لنا: كلنا في سفرٍ، فهذه حقيقة الحياة، فمهما حقق المرء من طموح، فسيطمع في آخر، ويتطرق الشاعر لصبره في معترك الحياة، ويبين أن العيس المعروفة بصبرها وبقدرتها على تحمل العطش والتعب، تدعو الله أن يروي شاعرنا، وينيله طموحه، ويبلغه مناه، لعلها ترتاح من كثرة حله وترحاله على ظهورها، والذي أجهدها به أيَّما إجهاد.

وثمَّة ذهابٌ للنجم البعيد، يُوَظَّفُ في القصيدة لدلالتين الأولى: دلالة البعد، وهي كناية عن بعد طموحات شاعرنا وتطلعاته، إذ أنَّها ليست من القريب السهل الذي يحلم به الشخص العادي. والثانية: دلالة الهداية فالنجم الذي من المفترض أن يهديه، يكون له موقفًا آخر، مغايرًا إذ يبلغه بأنَّه واهم، وأنَّ الطريق الذي سلكه ويسلكه ليس بالطريق الصحيح، ولكن من غير أن يرشده إلى الوجهة الصحيحة، فيا للشقاء!

ومن رحلة البعد هذه يشتد بالشاعر العطش، ويقصد النهر، وبدلاً من أن يعبَّ من مائه العذب الزلال، نجده يسائل النهر: هل تعرفني؟ هل تعر ف منتهى أملي؟ فيجيبه النهر بالإنكار، معتذرًا له بأنه وإن كان بوسعه إذابة عرصات الملح، إلا إنَّه لا يستطيع أن يذيب أوجاع الشاعر، ولا يستطيع أن يضع حدًّا لمعاناته، ويجيب عن سؤاله المستعصي عن غاية طموحه وأمله!
يستريح شاعرنا ظانًّا أن أحلام المنام تسفر له عما ينشده ويرجوه، فتحضر أرواح أرباب الهمم العالية، والرموز القدوات، ويجد أنَّهم أيضًا لم يصلوا لمبتغاهم، شأنهم شأنه، فهو لم يصل لا في الحقيقة ولا في المنام. ويعود الشاعر إلى الواقع/ الحاضر فأولئك وإن وصلوا لأملهم في نظر أنفسهم، فهو لم يصل، لأنَّ لكل زمانٍ دولةٌ ورجالُ، ولكل حالٍ ظروفه ومقتضياته.

يأوي الشاعر إلى ركنٍ شديدٍ؛ الإيمان بالله والتسليم له من خلال استحضاره قصة أصحاب الكهف، وهنا تتجلى عبقرية الشاعر، فالكهف وفتيته نص قرآني، ولا مجال للإنكار هنا، ولكن مشاهدة من بلغ الغاية في طموحه وأمله هو المتعذر، ويدرك المتلقي الروعة في قول الشاعر: “ورحت للكهف”، ولم يقل “ذهبت” مما يشعر بأن ذهابه إلى هناك كان ليلًا، دلالةً على أنَّ سفره وترحاله المتكرر باتجاه الحلم قد استنفد عليه كل صباحاته، وها هو يلحق بها لياليه لعل وعسى، وهي –أعني لياليه- كان من المفترض أن تكون وقت راحته وسكونه ونومه.
تناص الشاعر في المعنى مع قصة أصحاب الكهف القرآنية تناصٌ موظفٌ بحرفيةٍ تحمد للشاعر، ويتماهى مع موضوع قصيدته أحسن ما يكون التماهي. فرحلة أصحاب الكهف كانت رحلة عجيبة باتجاه حلم حقٍّ عظيم، وفرارًا من واقع باطلٍ بائس مرير، وكانت رحلة موفقة رغم طولها، ونهايتها جاءت خيرًا رغم غرائبيتها.

وثقافة الشاعر القرآنية ونهله من معينه الذي لا ينضب، لا نجده في التناص مع قصة أصحاب الكهف فحسب، بل يحضر جليًّا في تناصه مع رحلة أخرى لا تقل حسنًا وجمالًا عن رحلة فتية الكهف. إنَّها رحلة (يوسف) عليه السلام القسريَّة من داره وبلدته، ليباع رقيقا لعزيز مصر وامرأته، بعد أن نزغ الشيطان بينه وبين إخوته، وألقوه في غيابة الجب.

ونلحظ ذلك من خلال استخدام الشاعر لمفردات (قافلةٌ، دلوها، يتدلّى، الجُبّ، بشرى)، وهي مفردات موجودة حرفيًّا أو اشتقاقيًّا في سورة يوسف.

وإذا كان فتية الكهف قد حققوا حلمهم، فيوسف عليه السلام قد حقق حلمه ورؤيته. قال تعالى:
{وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ۖ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف 100].
فالشاعر يأمل ويرجو ويتفاءل بأن يحقق الله حلمه مثل ما حققه لفتية الكهف، وليوسف عليه السلام.

ووفق الشاعر أيضًا في تناصٍ مع العبارة القرآنية (وبئر معطلة) الواردة في قوله تعالى: (فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ).

في قوله: “في كل منعطف .. بئرٌ معطّلةٌ”.

فالبئر المعطلة هنا ترمز للعقبات، والصعوبات، والعوائق، التي تعترض تحقيق أي حلم، وقد ترمز أيضًا للأحلام، والآمال، والطموحات، التي تكسرت على صخور الواقع الصلدة، وأرضه المقفرة الوعرة التي لم يعد لها من ماء يسقيها، وينبت الخصب فيها بعد أن طمرت وعطلت بئرها.

يشركنا الشاعر معه أيضًا في ألمه وبكائه، فيجعلنا نتألم ونبكي وهو يقول:

” في داخلي”، وكأنه يقول: “في دواخلنا كلنا لا نسمع إلا الضجيج والاحتفال بالإنجازات السهلة”، وهذا الضجيج يخدعنا بنظامه الزائف، وكأننا في الطريق السليم، بينما الحقيقة أننا على خلاف ذلك وعكسه، إذ أننا في تيه وخوف.

وفي لحظة مخالفة ومضطربة وغير متوقعة ينقلنا الشاعر معه وهو يلقي بنفسه في غيابة الجبِّ، مكونًا قصةً قديمةً من الصعب أن نستحضر أحداثها ورواتها، وهذا عائدٌ لكونه لا يعلم ولا يدري من يتحقق له الحلم، وينال ما يرتجي.

ختامًا يعود الشاعر بنا في نصه إلى عالم البراءة علَّها تكون المنتهى والغاية، متمنيًا أن يظل موجودًا في هودجه يبتسم فقط، فغاية كل منا السعادة، لكن سرعان ما يفرض عليه الواقع والقلق سطوته، فيتنبه ويدرك مجددًا أنَّ البراءة والطفولة ليستا المنتهى والطموح، ولكنه يعاود الكرَّة في رحلة البحث؛ رحلة الحياة مستعينًا ومستقويًا بالإيمان، فكل وصولٍ لا يتم إلا بتوفيق من الله وعون منه.

“إِذَا لم يَكُنْ عَونٌ مِنَ اللهِ لِلفَتى
فَأَوَّلُ مَا يَجنِي عَلَيهِ اجتِهَادُهُ”.

يقفل الشاعر نصه المختلف هذا برجاء، يرى أنه حقيق وجدير به، فهو يقول:

“فإن بلغت المنى
فالله بلغني
وإن عثرتُ
فقولوا:
أعذرَ الرجلُ!”

ينسب الشاعر الفضل لصاحب الفضل -الله عزَّ وجلَّ- تتجسد في هذا الختام الموفق، وكأني به يقول: “ما أنا إلا مجتهد، ولكل مجتهد نصيب، فإن أصبت فمن الله، ولي أجران، وإن أخطأت فمن نفسي الضعيفة، ومن الشيطان، ولي أجر واحد، وفي الأجر الواحد خير وبركة، ولا يلام المرء بعد اجتهاده”.

 

كتبه الناقد الدكتور / صالح بن سرحان القرشي

 

مقالات ذات صلة

‫37 تعليقات

  1. اختيار القصيدة بداية في محله، وهي قصيدة كلماتها عذبة رغم ما تحمله من صراع نفسي شديد داخل الشاعر

  2. أبدع الناقد الأستاذ صالح في نقده، فتقريبا لم يترك شيئًا إلا وقد ذكره، بداية من التناص ومقاربة مقاطع القصيدة بالرحلات القرآنية، وليس انتهاء بمراد الشاعر من رحلته الشعرية.

  3. حقيقة إبداع يجب أن ترفع له القبعة، سواء في التحليل والنقد أو في القصيدة نفسها والتي أصاب الناقد في اختيارها.

  4. أبدع الشاعر في تقديم تجربة فريدة، قائمة على العمق والتعمق واختيار النصوص والعبارات الجزلة وتأثر كثيرا بما ورد في سورة يوسف عليه السلام فأبدع أيما ابداع..كل الشكر والتقدير

  5. أبدع الأستاذ صالح في نقده، ولكنه لم يتطرق لاستخدام الشاعر للام المضومة في القافية، والتي تعبر عن أنه رغم واقعية وشرعية وربما سهولة ما يحلم به أو يصبو إليه (باستخدام حرف الروي اللام)، لكن هناك عقبات كثر تحول بينه وبين الوصول (باستخدام الضم)، وشدة ما يعاني..
    حيث تقبض الضمة على حرف اللام، كما تقبض الصعوبات على أحلامه.

  6. “إِذَا لم يَكُنْ عَونٌ مِنَ اللهِ لِلفَتى
    فَأَوَّلُ مَا يَجنِي عَلَيهِ اجتِهَادُهُ”.

  7. في داخلي
    للضجيج المرّ قافلةٌ
    في دلوها
    يتدلّى التّيهُ والوجلُ

    قصيدة مميزة، وتحليل أكثر من رائع

    وكأنه يقول: “في دواخلنا كلنا لا نسمع إلا الضجيج والاحتفال بالإنجازات السهلة”، وهذا الضجيج يخدعنا بنظامه الزائف، وكأننا في الطريق السليم، بينما الحقيقة أننا على خلاف ذلك وعكسه، إذ أننا في تيه وخوف.

  8. غوص في أعماق الكلمات
    وتوقف مع حسيس حروفها..
    ما أجمل الأديب وهو يستحضر النصوص ويربط بعضها ببعض.
    عاطفة الشاعر … وعاطفة الناقد … حاضرة في نبض الكلمات،،، بل أقول حاضرة في الأثر الوجداني الذي سرى للقارئ.

    ما أجمل كلمات القصيدة

    أ. ن

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88