إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

المتوّج في قلوب البشر !.

الجوّ المعتدل اللطيف بنسماته ، الرقيق بهمساته ، يبعث في النفس بهجة ، وفي القلب فرحة ، وفي البدن مَنَعَة ، فلا شمس تحرقه ، ولا برد يرهقه ، لجماله ؛ يكاد يشير إلينا بآمالنا أنّها واقع ، وبآلامنا أنّها وهْمٌ خادع ، ولنضارته ؛ يجعل ذهن المتأمّل صافياً ، ويحسّ منه العليلُ تعافياً ، وهو الأقرب لروح الشاعر لهدوئه وعبيره ، والأجرى لحبر الناثر لأنفاسه وأثيره !. قال الشاعر اللبناني إيليا أبو ماضي في مثل هذا المعنى :

وَكُــلُّ مَعنى بِــهِ جَمــيلٌ

   يُعَلِّمُ الشاعِـــــرَ النَسيبا

أَرضٌ إِذا زارَهـا غَريبٌ

   أَصبَحَ عَن أَرضِهِ غَريــبا

والناس على اختلاف مشاربها ، وتفاوت مراتبها تأنس بمثل هذا الجو ، فيغمر السرور مهجتها كما يغمر الماء مجراه ، وذلك عند خروجها لاصطياف ، أو نزوحها لاصطياد ، أو لقضاء نزهة ولو قصيرة في مدينتها العامرة بتراص مبانيها العالية أو قريتها الحاسرة بضياء رمالها الذهبية ، وهي تختار لأمزجتها ما يصفيها من شوائب الحياة ، وما ينقّي عنها كدر العيش ، وما يجدّد فيها مسيرة الاستقرار ، قال الشاعر العباسي أبو فراس الحمداني :

ما العُمرُ ماطالَت بِهِ الدُهورُ

       العُــمرُ مــا تَــمَّ بِـهِ السُرورُ

إذاً هي تتفق في كلّ حالٍ على الاعتدال المناخي الذي تنجذب إليه ، فكأنّها أمّة واحدة وإن تفرّقت أمماً ، ومما يجتمع الناس على ارتضائه ، مهما كانت سطوة قضائه ؛ العدل ، فالعدل لا تأباه إلا نفس غير سوية ، طُمست فطرتها الإنسانية ، فهو مرتع خصب لإقامة المأمور والانتهاء عن المحظور ، وما اعتزت أمّة إلا به ، والإسلام ما جاء إلا لهذا ، لأنّه روحه ، كما هو قاهر لكلّ فساد ، وأمان لجميع العباد ، يُبقي الأخلاق قائمة ، والفتنة نائمة ، والأموال نامية ، والأهداف سامية ، كراسية بين أفئدة الناس دائمة ، ما دام منطقها بين عقولهم حازمة ، تحفل به لأنّ فيه إدراك مصالحها دون ضيم وظلم ، وعيْث وعبَث ، وهم إن لم يختلفوا في جوهر العدل ، اختلفوا في الوصول إليه والوقوف عليه ، فالأخذ به عند الناس مبدأ ، لكن الاختلاف بينهم في حكمه ، فهو في القليل مبهمٌ عائمٌ غائمٌ  ، بيد أن من ظفر به سالم غانم ، وأصعب العدل أن تنصف البشر من نفسك ، وأيسره أن تنصف نفسك من البشر ، وأخرقه أن تنسى حقّاً لنفسك عليه ، إلّا أن يكون لمصلحة تأمل وقوعها كإصلاح ذات البين والعفو عن المسيء رغبةً في رشاده وهدايته أو غير ذلك ، قال الشاعر العثماني ولي الدين يكن :

والعدل سلطانٌ شديد القوى

     ينــصره الله بـجــند القـضاء

وقد سمعت عن مسؤولٍ طلبَ من موظفي دائرته تناول الإفطار الذي أعدّه لهم ، وكان بينهم موظفٌ قد ذاق ويلات الظلم من هذا المسؤول فقال له بلغة صريحة : أمّا الجوع فلن نموتَ منه ، مادام العدل يشبعُ بيننا !. ، لذا مهما كانت لائحة الأنظمة ثقيلة على العاملين ستبقى خفيفة إن كان للعدل بينهم سلطان ، لأنه سيّدٌ يجمع القلوب وإن تناقضت أو تناحرت أمانيها ، فلا يشتكي من حكمه أحدٌ ، وإنّما يتّهمهُ الهوى ، إذ لا يقبل أن يُلوَّن لهوى أو أن يُجنّسَ لأذى ومن أخذه بخلاف هذا المنطق فقد أهلك وهلك ، ويكفي منه أنّ صاحبه من أسعد الناس ، ينام ليلهُ طيّب الأنفاس ، لا يشوك ضميره شوكة أسف ، فيا تُرى هل للظالم ضمير ؟!. ، ولا يجتمع عدلٌ وكِبرٌ في قلب إنسان ، فالكِبر يؤزُّ الظالم أزّاً ، ليرحل عنه الإنصاف الذي ما يزال يمقتُ قلباً تجلبَبَ بكساء الغطرسة والمفاخرة ، كما أنّ من عدل الله أن العدل آمانٌ لصاحبه !. ” حكمتَ فعدلتَ فأمِنت فنمت ياعمر “. فأقول :

لا يـرفض العــدل إلاّ تـابعٌ لـهوى

    إن خالفَ القصد من أوهامه عذلا

وما ذُكر العدل في التاريخ إلا ذُكر العمران عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وعمر بن عبدالعزيز -رحمه الله- فكلاهما آية في العدل لا يختلف عليه اثنان إلّا أن يكون مُغرضا ، وعن سبيل الحقّ مُعرضا ، فمن عدل عمر عدم تمييزه في الحكم فلا يُفرق في القضاء وممّا روي في عدله: ( أنَّ مسلمًا ويهوديًّا اختصما إلى عمرَ رضِي اللهُ عنه، فرأَى الحقَّ لليهوديِّ ، فقضَى له عمرُ به ، فقال له اليهوديُّ: واللهِ لقد قضيْتَ بالحقِّ ، فضربه عمرُ بالدِّرَّةِ وقال: وما يُدريك ؟ فقال اليهوديُّ: واللهِ إنَّا نجِدُ في التَّوراةِ ليس قاضٍ يقضي بالحقِّ إلَّا كان عن يمينِه ملَكٌ وعن شمالِه ملَكٌ يُسدِّدانه ويُوفِّقانه للحقِّ ما دام مع الحقِّ ، فإذا ترك الحقَّ عرجا وتركاه ). رواه المنذري بإسناد صحيح أو حسن أو ما قاربهما ، ومن عدل عمر بن العزيز على نفسه أن طلب من خادمه  مزاحم مراقبته ، فقال له : ” إنّ الولاة جعلوا العيون على العوام ، وأنا أجعلك عيني على نفسي ، فإن سمعت منّي كلمة تربأ بي عنها ، أو فعلاً لا تحبّه ، فعظّنِى عنده ، وانهنِي عنه “.

ولا يفسد القضاء مثل أن يستمع القاضي للقضية بأذنٍ واحدةٍ !. ، فلو أنّ القاضي أصغى بأذنيه ، وترك عنه الهوى ؛ ما اختلفَ عليه الورى !. ، وكثيرٌ من العلاقات يقطع حبالها هذا المبدأ الظالم ، فبعضنا يحكم على الأخرين من خلال مقالة الناس فيه ، ويغفل عن قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ  }. ، ولو كان للإنصاف مساحة في ضمير من أصابَ قوماً بجهالة لما استعجل الحكم على الناس من كلام الناس !. ، على أنّك إن ذكّرته بالآية لارتفع لدرجة العدالة في المقالة وسمع ممّن أصابه بالتهمة لوجدته مجيباً ، لكن ربما أخذته العجلة حتى أُوغرت النفوس بالشحناء ، فاتسخت القلوب بالبغضاء ، وذلك لغياب الجوّ المعتدل الذي يستلطفه الناس وهو العدل على كلّ حال.

فاصلة منقوطة ؛

العدل ألّا تُجحفَ حقّ أحدٍ في أمرٍ ما ، حتّى وإن ظلمك في أمرٍ آخر ، ولا يعني ذاك ضعفك ، بل كمال نُبلك !.

———————————

إبراهيم الوابل – أبو سليمان

ibrahim7370@

الاثنين – الموافق

17 – 8 – 1440هـ

22 – 4 – 2019م

مقالات ذات صلة

‫39 تعليقات

  1. الجوّ المعتدل اللطيف بنسماته ، الرقيق بهمساته ، يبعث في النفس بهجة ، وفي القلب فرحة ، وفي البدن مَنَعَة ، فلا شمس تحرقه

  2. ماشاء الله لمسات الإبداع جلية ومن السقطات نقية
    وعلى المسامعي شفية فهو وابل زُلال سقيه
    زادك المولى أجزل عطيه ومن المواهب مالا تعده احصائية
    دمت بود

  3. فالعدل لا تأباه إلا نفس غير سوية ، طُمست فطرتها الإنسانية ، فهو مرتع خصب لإقامة المأمور والانتهاء عن المحظور ، وما اعتزت أمّة إلا به ‘‘أحسنتم

  4. عدل ألّا تُجحفَ حقّ أحدٍ في أمرٍ ما ، حتّى وإن ظلمك في أمرٍ آخر ، ولا يعني ذاك ضعفك ، بل كمال نُبلك
    ??

  5. عندما تقرأ لأبي سليمان لا تستفيد فقط ولكن تستمتع أيضا، والسر في ذلك الألفاظ المنتقاة بشكل جيد والجمل الأنيقة الدالة والمعبرة، المكتوبة بلغة سليمة، سلسة ومفهومة.. تسلم

  6. مواضيعك كبيره وجميله وهادفه روائع و كلمات وحروف تحمل معاني كثيره وكبيرة
    اشكرك … على هذا الموضوع الاكبر من رائع

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88