إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

ياللتاريخ عندما يسطره المتسامحون

قال تعالى: (قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ ۖ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَٰذَا أَخِي ۖ قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا ۖ إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ۖ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ ۖ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَٰذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93).

إنَّ ما أبداه سيدنا يوسف -عليه وعلى نبينا محمد أفضل الصلاة والسلام- من روح التسامح، وجمال الصفح، وعظمة العفو نحو إخوانه رغم جريمتهم البشعة بحقه، وحق أخيه وأبيه، لأمرٌ فريدٌ حقًّا، وقَلَّمَا نرى له مثيلًا في تاريخ الإنسانية قديمة وحديثة.

إنه عفوٌ عند مقدرةٍ، كما أنه عفوٌ ليس مشروطٌ أو مرهونٌ، وزاد عليه يوسف أن دعا الله لهم بالمغفرة، وأعطاهم قميصه ليذهبوا به إلى أبيه ليرتد بصيرًا بأمر الله، وطلب منهم أن يأتوا إليه بأهلهم جميعًا؛ لا ليقيم محاكمةً علنيةً يشهدها القاصي والداني مثلما يفعل بعض المنتصرين، وإن شئت فقل بعض متوهمي النصر، بل ليكرمهم ويبالغ في إكرامهم.

لله درك يا نبيَّ الله! لقد كظمت غيظك، وعفوت عمَّن أساء إليك، وأحسنت إليهم أيضًا.

قال تعالى:
(الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاس ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134). سورة آل عمران.

أنت ذؤابة هؤلاء، فهنيئًا لك بأجرهم، ونيل جزائهم: (أُولَٰئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136). سورة آل عمران.

​​​ما أحوجنا لاستلهام دروسٍ وعبرٍ وحكمٍ وعظاتٍ من هذا العفو والصفح، ومن صورة التسامح هذه، لا سيما في عالمنا المعاصر اليوم الذي يموج في صراعاتٍ مختلفةٍ، ويصادر بعضه بعضاً، ويقتتل ناسه أفراداً وجماعات على الهوية، والتافه من متاع الدنيا الزائل، وتعلو فيه بغضاء الطائفية وغلو العصبية، وأصبح الدم البشري يراق في أماكن كثيرةٍ رخيصاً وبارداً.

أما القيم الإنسانية النبيلة، والمعاني الجميلة المقدسة، التي جاءت بها ولأجلها ديانات السماء، وقدستها شرائع الأرض؛ فقد تراجعت بشكلٍ مخيفٍ، وأصبحت أشبه ما تكون ببقايا من خِطَابِ الوُعَّاظِ، وسَرْدِ الحكواتية.

في عالم كهذا لم يعد للإنسانية فيه من مخرجٍ إلا بترياقٍ ناجعٍ عرف منذ بدء الخليفة، ولكنه نسي أو أنسي، نسي في غفلة، أو أنسي عن قصد خبيث.

ذلكم الترياق هو (التسامح)، الذي يبرز جليًا في موقف يوسف عليه السلام مع أخوته، كما برز واضحًا في موقفه ﷺ من كفار قريش عند فتح مكة، فقد منح جميع أهل مكة عفوًا عامًّا رغم أنواع الأذى، وصنوف العذاب التي ألحقوها بالرسول محمدٍ ﷺ ودعوته، ومع قدرة الجيش الإسلامي على إبادتهم، ولكنه عفا عنهم وهم مجتمعون قرب الكعبة ينتظرون حكم الرسول فيهم.

عن ابن عباس أن رسول الله -ﷺ -أخذ بعضادتي الباب يوم فتح مكة، وقد لاذ النَّاس بالبيت فقال: “الحمد لله الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده” ثم قال: ماذا تظنون يا معشر قريش قالوا: خيرًا، أخٌ كريمٌ، وابن أخ ٍكريمٍ وقد قدرت؛ قال: ” وأنا أقول كما قال أخي يوسف لا تثريب عليكم اليوم ” فقال عمر -رضي الله عنه -: ففضت عرقًا من الحياء من قول رسول الله -ﷺ – ذلك أني قد كنت قلت لهم حين دخلنا مكة: اليوم ننتقم منكم ونفعل، فلما قال رسول الله -ﷺ – ما قال استحييت من قولي”.

وترتب على هذا العفو العام حفظ الأنفس من القتل أو السبي، وإبقاء الأموال المنقولة والأراضي بيد أصحابها.

والمسيح عيسى بن مريم -عليه السلام- كان يوصي أتباعه بالتسامح، ويقول لهم من ضربك على خدَّك الأيمن فأدر له خدَّك الأيّسر، أو نحوًا من ذلك.

وغالبية الثورات التي قدر لها النجاح والديمومة عبر التاريخ، هي تلكم التي ترفّع روادها العظماء عن فكرة الانتقام والثأر، وتوجهوا بكلِّ ما أوتوا من قوة للبناء والإصلاح.

“إنَّ عقلية الثأر لا تبني دولةً، بينما عقلية التسامح تبني أممًا” هذا ما يعقب به (نيلسون مانديلا) رئيس جنوب أفريقيا السابق على حكايته الشهيرة هذه:
” بعد أن أصبحت رئيساً. طلبت من بعض أفراد حمايتي التجوال معي داخل المدينة، وتناول الغداء في أحد مطاعمها. وفي أحد المطاعم جلسنا في أماكننا وكل منا طلب نوعًا من الطعام. وبعد فترة أحضر لنا العامل طلباتنا، فلاحظت أن هناك شخصًا جالسًا
مقابل طاولتي ينتظر الطعام. قلت لأحد الجنود:
“اذهب واطلب من ذلك الشخص أن يأتي بطعامه ويأكل معنا”.
ذهب الجندي وطلب من الرجل أن يأتي ليأكل معنا. حمل الرجل طعامه. وجلس بجانبي كما طلبت، وبدأ يتناول الطعام، وكانت يداه ترتجفان، إلى أن فرغ الجميع من طعامهم وذهب الرجل. فقال لي الجندي:
لعل الرجل كان مريضًا.
فقد كانت يداه ترتجفان وهو يأكل!!
فأجابه (مانديلا):
لا. أبدًا، هذا الرجل كان حارسًا للسجن الذي كنت فيه.
وفي أغلب الأحيان وبعد التعذيب الذي كنت أتعرض له كنت أصرخ وأطلب قليلا من الماء. وكان يأتي هذا الرجل ويقوم بالتبول على رأسي في كلِّ مرة، لذلك وجدته خائفًا يرتجف. توقع بأنني سأبادله الآن بنفس الطريقة، فأقوم إما بتعذيبه أو بسجنه. وأنا رئيس دولة جنوب أفريقيا، ولكن هذه ليست من شيمتي، ولا من أخلاقي”. (1).

يقول المؤلف والمعالج النفساني بالتسامح (جيرالد ج. جامبولسكي) في كتابه الصغير الحجم، الكبير المعنى (التسامح أعظم علاج على الإطلاق): (التسامح هو أفضل علاج على الإطلاق يسمح لنا بأن نشعر بالترابط، أحدنا بالآخر، والكلُّ بالحياة). ويضيف (إن للتسامح قدرة على علاج حياتنا الداخلية والخارجية، فبوسعه أن يغير من الطريقة التي نرى بها أنفسنا والآخرين، كما أنه يغير من رؤيتنا للعالم، وينهي بصفة نهائية الصراعات الداخلية التي عانى منها الكثيرون منا، والكامنة بدواخلنا في كلِّ لحظةٍ وحينٍ).

والتسامح غدا اليوم نوعاً من الطب النفسي له آلياته وطرائقه وعياداته، وحقق نتائج مذهلةً على صعيد الأفراد، ويعد بالكثير على مستوى الجماعات والمجتمعات.

إن ممارسة التسامح وجعله عادةً حياتيةً أمرٌ ليس باليسير، ويحتاج إلى مرانٍ وتدريبٍ، وقبل ذلك عقيدةٍ بجدواه واعتقادٍ بنفعه، وقد لفت القرآن الكريم الأنظار لهذا الجانب في توجيهه للنبي ﷺ: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ).

يقول الحكيم الهندي (جواهر لآل نهرو): (فقط ذوو النفوس الكبيرة، هم الذين يعرفون كيف يتسامحون).

ولما للحكاية من أثر في تخليد المعنى وترسيخه، لا أجد بأساً من تذييل هذا المقال بقصّةٍ عن التسامح.
(بينما كان الصديقان يسيران في الصحراء، تجادلا، فضرب أحدهما الآخر على وجهه، لم ينطق بأيّ كلمةٍ، كتب على الرمال: اليوم أعزَّ أصدقائي ضربني على وجهي! استمر الصديقان في مشيهما إلى أن وجدا واحة فقررا أن يسبحا فيها. علقت قدم المضروب آنفاً في الرمال، وبدأ يغرق، ولكن صديقه أمسكه وأنقذه، وبعد أن نجا من الموت، قام ونحت على قطعة من الصخر: اليوم أعزُّ أصدقائي أنقذ حياتي!
سأله صديقه متعجباً: لماذا في المرة الأولى عندما ضربتك كتبت على الرمال، والآن عندما أنقذتك نحتّ على الصخرة؟، فأجاب صديقه:
نكتب الإساءة على الرمال عسى أن تأتي ريحٌ وتمحوها، وننحت المعروف على الصخر حيث لا يمكن لأعتى ريحٍ أن تمحوه).

ختاماً .. متى ما أرضعنا أطفالنا التسامح، وعلَّمناه صغارنا وكبارنا، وجعلناه لنا شرعةً ومنهاجاً؛ عندها فقط نتجاوز التحديات الخطيرة التي تواجهنا، وتصادر حرياتنا وحقوقنا، وأهمها حقنا المقدس في الحياة.

التسامح يا سادة هو أول العلاج وآخره.

ليتنا نتعلم شيئًا، ونتمتع ولو بقليلٍ من تسامح الرسل والأنبياء، والقادة الربانيين، وأهل النبل ممن جعلوا التسامح سجيةً وخلقًا بمثابة بصمةٍ تميزهم عن غيرهم، وعلى رأسهم سيد الخلق أجمعين رسول الإنسانية الخاتم محمد بن عبد الله ﷺ.

(1) موقع صحيفة (المناة نت) الإلكتروني/
https://al-manara.net/news16646.html

☘️??☘️??☘️??☘️??☘️??

بقلم الأديب والباحث والمترجم/ خلف بن سرحان القرشي

#خلف_سرحان _القرشي 

السعودية – الطائف – ص. ب 2503  الرمز البريدي 21944

qkhalaf@hotmail.com

تويتر @qkhalaf

مقالات ذات صلة

‫44 تعليقات

  1. “إن للتسامح قدرة على علاج حياتنا الداخلية والخارجية، فبوسعه أن يغير من الطريقة التي نرى بها أنفسنا والآخرين، كما أنه يغير من رؤيتنا للعالم، وينهي بصفة نهائية الصراعات الداخلية التي عانى منها الكثيرون منا، والكامنة بدواخلنا في كلِّ لحظةٍ وحينٍ” انتهى الكلام هؤلاء استفادوا من ديننا ومن تراثنا الإسلامي العربي، في حين نحن أضعنا كل شيء والدليل انظر ماذا يجري في الساحة العربية بالعين المجردة.. تسلم أخي خلف..

  2. التّسامح هو الشّعور بالرّحمة، والتّعاطف، والحنان، وكلّ هذا موجود في قلوبنا، ومهمٌّ لنا ولهذا العالم من حولنا

  3. التسامح من أسمى الصفات التي أمرنا بها الله عزّ وجلّ ورسولنا الكريم، فالتسامح هو العفو عند المقدرة والتجاوز عن أخطاء الآخرين ووضع الأعذار لهم

  4. أُكتب الإساءة على الرمال عسى ريح التسامح تمحيها، وانحت المعروف على الصخر حيث لا يمكن لأشد ريح أن تمحيه.ما اجمل ان نتسامح من اجل البقاء والحفاظ على من نحب

  5. التسامح والتسامي يسيران جمبا الى جمب فاختر احبهما الى قلبك لتمسح به اخطاء من اساؤا اليك

  6. بوركت
    أفضل الثأر …… العفو
    اللهم ارزقنا الصفح والغفو والمسامحة لخلقك يا ذا الجلال والإكرام.

  7. التسامح نبل جميل ولايلقاها إلا ذو حظ عظيم
    وأبدع كاتبنا في التطرق لهذا الموضوع

  8. شكرا جزيلا لكم أعزائي الكرام على المرور قراءة وتعليقا. والحمد لله أن المقال نال قبولكم وحظي برضاكم.
    ومنكم بعد الله عز وجل أستمد الطاقة المحفزة لإنتاج مزيد من المقالات التي تليق إن شاء الله تعالى بذوائقكم الراقية. وتنفع وتمتع.
    حفظكم الله ورعاكم وأبقاكم لي ولمحبيكم فخرا وذخرا.

  9. إنَّ ما أبداه سيدنا يوسف -عليه وعلى نبينا محمد أفضل الصلاة والسلام- من روح التسامح، وجمال الصفح، وعظمة العفو نحو إخوانه رغم جريمتهم البشعة بحقه، وحق أخيه وأبيه، لأمرٌ فريدٌ حقًّا، وقَلَّمَا نرى له مثيلًا في تاريخ الإنسانية قديمة وحديثة.

  10. ن ممارسة التسامح وجعله عادةً حياتيةً أمرٌ ليس باليسير، ويحتاج إلى مرانٍ وتدريبٍ،

  11. والتسامح غدا اليوم نوعاً من الطب النفسي له آلياته وطرائقه وعياداته، وحقق نتائج مذهلةً على صعيد الأفراد، ويعد بالكثير على مستوى الجماعات والمجتمعات.

  12. ليتنا نتعلم شيئًا، ونتمتع ولو بقليلٍ من تسامح الرسل والأنبياء، والقادة الربانيين، وأهل النبل ممن جعلوا التسامح سجيةً وخلقًا بمثابة بصمةٍ تميزهم عن غيرهم، وعلى رأسهم سيد الخلق أجمعين رسول الإنسانية الخاتم محمد بن عبد الله ﷺ.

  13. يقول الحكيم الهندي (جواهر لآل نهرو): (فقط ذوو النفوس الكبيرة، هم الذين يعرفون كيف يتسامحون).

  14. نكتب الإساءة على الرمال عسى أن تأتي ريحٌ وتمحوها، وننحت المعروف على الصخر حيث لا يمكن لأعتى ريحٍ أن تمحوه).

  15. مقال ممتاز يقدم الإضافة، لأنه يشتغل أهم قيمة من قيم المجتمع ألا وهي قيمة التسامح.. شكرا جزيلا لك

  16. ما أحوجنا لاستلهام دروسٍ وعبرٍ وحكمٍ وعظاتٍ من هذا العفو والصفح، ومن صورة التسامح هذه، لا سيما في عالمنا المعاصر اليوم الذي يموج في صراعاتٍ مختلفةٍ.

    عظيم جدا

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88