إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

الحانوتي الأفّاك

ما أكثر ما يسحرنا أسلوب الباعة عند عرض البضاعة ، ويختلف هذا الأسلوب بين الإغراء والترغيب ، والتزيين والتحبيب ، دون إساءة وأذى ، وإضرار وقذى ، غير أنّ أقبح ما في هذا الأسلوب أن يُمسك بعصا السحر من الخِبّ والحيلة ، والغشّ والغيلة ، حيث لا يزال يُغري المشتري ، فيستنزف جيبه ، حتى إذا وقع في الفخ ، أدرك أنّه ما كان ينبغي منه أن يأتي ما كان ؛ لولا ذلك الإعلان الذي جذبه مشجّعاً ، فأوثق حاجته طامعاً ، فكان المبتاع فيه هدفاً وغَرَضاً ، بعدما مرّ بمحلّ البائع صدفةً وعَرَضاً ، قال الشاعر المصري محمد الأسمر :

أُقَلِّبُ طرفي لا أرى غيرَ تاجرٍ

    يفكّرُ في أسواقهِ كيفَ يكسَبُ

ومن غرائبهم في التدليس ، أن يغريك بأقلّ السعر والقيمة ، بثمن لا يساويها زنة السلعة ، فقد مررت بأحدهم مرةً عند جامع الجمعة ، وأغراني بصندوق لثمرة الموز وكانت قيمته عشرة ريالات فقط ، وهو في السوق يساوي خمسةً وعشرين ريالاً ، وأثناء حملي للصندوق توجّستْ يدي قبل عقلي حجم التمويه والمكر ، إذ كان الصندوق خفيف المحمل ، حثيث المنقل ، يكاد يعانقني لخفّة وزنه ، وسهولة التقاطه ، فشرعت في فتحه قبل الاشتراء فوجدته بضع حبات لا تتجاوز العشرة ، بالطبع تركته ، فليس لعاقل أن يغشّ نفسه فيبتاع ما عنده ، وقد علم عظم الغَبْن ، وسوء الخَتْل ، فمضيت إلى الجامع وأنا أردّد قول الشاعر المصري علي أبي النصر :

أيرضى من له عَقْلٌ ورأيٌ

      تعاطي ما عليه به وبالُ ؟!

وقد يهون فعل هذا وأمثاله أمام فئة أخرى فريدة من نوعها ، قد يكون بعضنا سبباً في تشجيعها على مثل هذا التصرّف ، لتكون ظاهرة متظاهرة أمام مزيّة عند العرب ساحرة ، فئة تلعب بالمشاعر وتظنّ فنظنّ أنّها تحكي حقّاً أفراحنا وآلامنا ، فئة تتكسّب خلف الخواطر المصطنعة ، والأحاسيس المنتحلة ، والكلام الركيك ، والقول الخائر ، والخطاب البارد ، أولئك هم أصحاب حوانيت القصائد ، ومحالّ القوافي ، وبائعو الشعر ، فكيف للبقّال أن يكتب إحساسي فضلاً على أن يعرفه ، وإن عرفه كيف له أن يفهمه ، وأرى أنّها ظاهرة تقلّل من مكانة الشعر وهيبته ، وتنزع عنه السبق عند العرب وقيمته ، وقد عاب بعض النقّاد القدماء الشاعر الجاهلي النابغة الذبياني تكسّبه الشعر أمام الملوك ، إذ هو من استنّ هذه السنة وسار على دربه لفيفٌ من الشعراء ، فكيف لو رأوه اليوم وهو بين رفوف الادّعاء ، ودفوف التمايل ، زاعماً الفرح بالنجاح ، وراقصاً الميْلَ في الأفراح ، بألفاظٍ ضامرة ، وأبياتٍ واهنة ، فأفٍّ لطمعٍ أفسد الفصاحة ، ولجشعٍ أنقص البلاغة ، وأفٍّ لرزقٍ لا يقوم إلّا على الهذر والحشو ، ولمعيشة لا تنهض إلّا على الزور واللغو ، ولا أجد قولاً يناسب من يحفّز ويزيّن لهولاء فعلهم إلّا قول الشاعرة العراقية نازك الملائكة : ” قد يكونُ الشِعر بالنّسبة للإنسان السّعيد ترفاً ذهنيّاً محضاً ، غير أنّه بالنسبة للمحزُون وسِيلة حياة “.

فالشعر روحٌ أخرى تسكن روح الشاعر لا يصدر عن مجاملةٍ ولا مناسبةٍ ولا مطالبةٍ إلّا إذا رغب ، فلامست الرغبة شعور قلبه ، أمّا إذا بحث الشاعر عنه دون رغبة ، فسيكشفه الاصطناع ، وتتّضح معالم الصنعة المفتعلة في خفوت الهزّة والإمتاع عند المتذوّق ومن يميّز ويحكم بين جيّد الشعر ورديئة ، وصحيحه وسقيمه ، وبليغه وسخيفه ، وأجمل الشعر ما وقع عفو الخاطر متيناً ، صَدرُ أبياته تقويّ عَجُزها ، وعَجُزها تعزّز صَدْرها ، وقوافيه مُحكَمة وثيقة الصلة بأبياتها ، مترابطة فيما بينها ، خاصةً حينما تكون الأنسب والأغزر إيحاءً دون القافية وأختها ، قال الشاعر السوري محمد الفراتي :

ما الشعرُ إِلا شعورُ المرءِ يرسلُهُ

     عـفَـو البديهةِ عن صدقٍ وإِيمانِ

وقد أكون مبالغاً إذا قلت : إنّ أصدق الشعر لا يخرج عن ثلاثة أغراض إلّا قليلاً ، شعر الغزل والحكمة والرثاء ، فالأول عاشق حزينٌ فرحان ، فلبعد حبيبٍ أضناه السهر ، أو لقربه أسعده السمر ، والثالث أي الرثاء ناعٍ أسيفٌ لهفان ، أُثير فأرهج قريحته فقيدٌ التهمه التراب ، والثالث الحكمة إذا تنفّست عن تجارب هَرِمَة اشتعلت بالشيب بين ثنايا كلّ غرض من أغراض الشعر سواءً أكان المدح أو الفخر أو الهجاء أو غيرها ، لتبرز الحكمة صادقة تلامس القلب في عاطفة مفعمة بأملٍ يحدوه أو ألمٍ يغشاه ، وفي رأيي أنّ ثقافة الأمم تبعٌ لثقافتها الشعرية ، فكلّما ارتفع شمخت ، وكلّما انحدر وقعت ، وإلّا ما معنى أن يكون هناك يوم عالمي للشعر في كوكبنا الصغير ، وأمّتنا كعرب أولى أن تكون عارفةً به على طريقة أوائله ، فلولا بروزها في هذا الشأن ما جاء القرآن الكريم متحدّياً لفصاحة أهلها وبلاغتهم ، قال الشاعر العراقي زكي قنصل :

كْـــلُّ شِـعْـرٍ لا وزنَ فـــيــه ولا

       معنى ؛ هراءٌ أصولُهُ أجنبيهْ

شرفُ القولِ أن يكونَ فَصيحاً

       لم يلجلــج إِلا خبـيث الطويهْ

وأكذب الشعر أن يكون سند قبضٍ يكلّف طالبه ، أو مجاملة تُنزل قدر ناحته ، أو مناسبة تُرضي سُؤلَ شاحذه ، وعن مثل هذا يقول الكاتب الكبير أحمد حسن الزيات في معرض حديثه عن أحمد شوقي : ” وقد يُعفى طبعه أحياناً ، فيرسل الشعر كما يجيء ، من غير تنوق فيه ولا تنقيح له ، فيأتي بما لا يتّفق مع فضله ، وتلك صفة تكاد تلزم المُكثرين ومن يقترح عليهم القول في موضوعات لا يجيش لهم بها صدر ، ولا تدفعهم إليها عاطفة “. وبداية القصيدة عند الشاعر أن يتركها فتستجيب له ، فإذا أقبلت انهمرت على صفحة قلبه انهمار المطر فأوْرَقَت وأثمرت بجمالها ، أمّا إذا قصدها أخذها عنه كِبْرها وولّت هاربة ، فلم يستطع إليها وصولا ،  وتصبح قوّتها متمنّعةً عنه لتكلّفه إيّها ، وإن وصل إليها رأيت لقوله شتاتاً وضعفاً ، كأنّما هي بغش ورشّ من ماء مسّت أرضاً دون أرضٍ قريبةٍ منها ، فأقول :

تمنّع عني والمعاني قريبةٌ

   ولكنّهُ في البعد عنّي كما الغيمُ

وبعد ، إنّ الشعر عاطفة ، فإن لم يحتويها وتحتويه كان من الأهون على الشاعر أن يقتلع له ضرساً بعد آخر من كتابة بيت واحد دون شعور يملأ قلبه تجاه ما يلتمس الناس منه ، وإلّا أصبح كبائع الموز الذي يغشّنا فنغشّ عواطفنا معه.

فاصلة منقوطة ؛

حكـيت للشـعــر أفــراحي وأوجـاعي

   أجابني : زدني إنّي سـامعٌ واعي !!

نبضي فؤادك ، ماحرفي لذي (طلبٍ)

   تحرّى منك لتحكي .. نبضهُ الداعي !

* كُتبت بمناسبة اليوم العالمي للشعر

———————————

إبراهيم الوابل – أبو سليمان

ibrahim7370@

الاثنين – الموافق

18 – 7 – 1440هـ

25 – 3 – 2019م

مقالات ذات صلة

‫23 تعليقات

  1. (الشعر روحٌ أخرى تسكن روح الشاعر لا يصدر عن مجاملةٍ ولا مناسبةٍ ولا مطالبةٍ إلّا إذا رغب ، فلامست الرغبة شعور قلبه )
    أوجزت فأصبت .. برأيي الشعر من أجل التكسب شعر بلا مشاعر فلا يصل للقلب بارك الله فيكم وبالتوفيق

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88