الكتابة بين التقديس والتدنيس (1)
تعد المرحلة التي عَرفَ فيها الجنس البشري الكتابة من أهم المراحل التي أحدثت فرقًا جوهريًّا بين الإنسان قبلها وبعدها، وما ذلك إلا لأن الكتابة بجانب كونها وسيلة ناجعة مكنت الإنسان من التواصل مع غيره، فهي أيضا سِجِلٌ مُوَثِقٌ لتاريخه، راصدٌ لخبراته المختلفة. وهذا التوثيق يستفاد منه، ويبنى عليه، مما يُكَوِّنُ ويُشَكِّلُ لبناتٍ مفصليةٍ متراكمةٍ في سلم الحضارة الإنسانية.
وحضارات الأمم والشعوب قِيْسَتْ، وما تزال تقاس بمقدار نتاجها المعرفي كَمًّا وكيفًا، وبكل ما هو موثّقٌ من تراثها وثقافتها، كتابةً وفنًّا ونحو ذلك.
والكتابة خالدةٌ خلود بني آدم على هذه المعمورة، باقيةٌ ما بقي الإنسان حتى قيام الساعة؛ ومن المفارقات حقًّا أن الإنسان حينذاك يُخْرَجُ له كتابٌ يلقاه منشورًا، بينما البداية في تاريخ الإنسان المسلم هي كلمة (اقرأ)، وفي المسيحية (في البدء كانت الكلمة).
الكتابة تقترب من الفعل المقدس، إن لم تكن (هو) نفسه في بعض حالاتها، وحُقَّ لها ذلك، وهذا ما ينبغي لها. ألم تَقُمْ الديانات السماوية على أساسٍ من كتبٍ منزلةٍ من ربِّ العزة والجلال؟ أليست القوانين والمبادئ والقيم والتشريعات مسطورة، ومحفوظة بين ثنايا كتبٍ قيمةٍ، نُقِشَتْ بمدادٍ ضخمٍ على أوراق صفراء وبيضاء؟
ورغم هذه الميزة الفريدة، والمزيَّة العالية للكتابة، فإن هناك كتابات لا تساوي قيمة الحبر الذي كتبت به، وحرامٌ فيها ذلك البياض الناصع للورق الذي لَوَّثَتْه.
والفرق في نظري بين الكتابة البشرية الخالدة، وبين تلك التي هي قليلة الأثر، أو عديمته يكمن في أمورٍ عدَّة، من أهمها الصدق الكامن وراء كلماتها، وعبر حروفها.
قال تعالى: (فوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُون).
وقال تعالى: (كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ).
ونحسب أن الكتابة هنا مثلها مثل القول، أو قريبًا منه، والله أعلم.
تقول الكاتبة الأمريكية (أنآيس نين): “دور الكاتب ليس قول ما يمكننا قوله جميعاً، بل ما لسنا قادرين على قوله”.
أليس الصدق هو من أهم ما عجز ويعجز عن قوله جَمٌّ غفير من الأدباء والكُتَّاب؟
والصدق الذي يصعب قوله لا يكمن في قول الحقيقة المجردة فقط، بل يتضمن الصدق في المشاعر، وقبلها في النوايا.
يقول الناقد الأمريكي: (توم بيسيلل): “الكاتب العظيم يصرّح بالحقيقة حتى إن كان لا يرغب بذلك”.
ومن معايير خلود الكتابة: العمق في التعاطي مع قضايا الانسان، ومقاربتها وتقاطعها مع أسئلته الكبرى، ومشكلاته العظمى المُؤَرِّقَةُ التي تهدد كينونته، وتَحُدُّ من إبداعه، وعطائه لخيره، وخير بني جنسه، وأعني ذلك الإبداع والعطاء الذي يتجاوز أيَّ تقسيمٍ أو تصنيف، ويتعالى فوق كل الأيدلوجيات التي تفرق ولا تجمع، وتعيق جريان النبل الإنساني ولا تغدقه.
وفي هذا الصدد، يقول الكاتب الأمريكي (ويليام فوكنر) – مسديًا نصيحته للكتَّاب المبتدئين – أثناء تسلمه جائزة (نوبل):
” على الكاتب ألا يدَّع في ورشة عمله أيَّ شيءٍ عدا حقائق القلب الإنساني، تلك الحقائق الأزلية التي لا تكون فيها كل قصةٍ إنسانيةٍ مجرد حكاية عابرة، محكومٌ على الحُبِّ فيها بالموت – عليه (أي الكاتب) أن يكتب عن الحب الحقيقي والشرف، والشفقة والفخر، والعاطفة والتضحيات الحقة. ومالم يفعل الكاتب ذلك، فإن اللعنة سوف تحل به، وتلقي بظلالها على نتاجه”.
ويقول أحدهم: (ما فائدة القلم إذا لم يفتح فكرًا، أو يضمد جرحًا، أو يرقأ دمعةً، أو يطهر قلبًا، أو يكشف زيفًا، أو يبني صرحًا يَسْعَدُ في ظلاله الإنسان).
ومع الانفجار المعرفي الهائل الذي تشهده البشرية اليوم، ومع توفر منابر النشر، وتعددها، وتَمَكُّنِ كل إنسان تقريبًا، متى ما أراد، من إصدار صحيفةٍ أو مجلةٍ أو مدونةٍ أو نحو من ذلك، فقد ابْتُذِلَت الكتابة أيُّما ابتذال، ومارسها أقوامٌ ليسوا لها بأهلٍ، ولا يَمُتُّونَ لها بصلةٍ، أساءوا لها شكلًا ومضمونًا، وروجت لذلك مقولاتٌ ظاهرها فيه الرحمة، وباطنها من قبله العذاب، من قبيل: (المخرج عاوز كده)، و (الجمهور وما يريد)، و (لا … لممارسة الوصاية على الكتابة)، والنتيجة غثاءٌ كغثاء السيل؛ يملأ المكان، ويشغل الزمان، وتافهون كُثْرٌ تصدروا المشهد، بعد أن جعلت منهم بعض وسائل الإعلام؛ قديمةً وجديدةً نجومًا يشار لهم بالبنان.
والعزاء كل العزاء في أن الزَّبَدُ يَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ، ويُخَلَّدُ في السَفرِ الإنساني المجيد.
************
نشرت لي (المجلة العربية) مشكورةً هذه المقالة مختصرةً في زاوية (حتى نلتقي) في العدد “509” لشهر “فبراير” الماضي. وهي هنا -بتصرفٍ يسيرٍ- لقراء (هتون) الكرام؛ الذين لم يتسن لهم الاطلاع عليها سابقًا.
☘️☘️☘️☘️☘️
بقلم الأديب العربي/ خلف بن سرحان القرشي
#خلف_سرحان _القرشي
السعودية – الطائف – ص. ب 2503 الرمز البريدي 21944
تويتر @qkhalaf
إبداع لكاتبنا الأديب وتسليط الضوء على هذا الموضوع الذي بحاجه له في هذا الزمان
مقال جميل ويفتح آفاق أتمنى من الكاتب يتطرق لها مستقبلا من حيث ماهية المقدس ومتى يكتسب الشئ قدسيته؟
سلمت يداك ومانطق به فاك اباسعد
حقا انه مقال يستحق الاهتمام والنشر.
فعلا القلم امانه فلنحترس وفقك الله لما يحب ويرضى
مقال جميل من كاتب جميل
الكنابة فن وقد ابدعت
احببت الاستشهادات جدا، ودلت على مجهود قيم في اخراج المقال.
مقال ممتع
الكتابة مفتاح لتطور المجتمعات والأمم ولكنها في نفس الوقت سلاح ذو حدين.. تسلم أستاذ خلف سرحان..
شئ جيد للغاية
الشكر لصحيفة هتون بالتوفيق ان شاء الله
مبدعون كالعاده بالتوفيق ان شاء الله
مقال مميز
دور الكاتب ليس قول ما يمكننا قوله جميعاً، بل ما لسنا قادرين على قوله..
صدقت أستاذ خلف
مقال مميز جدا
دائما تذهلنا كتابات حضرتك وتفيدنا
كلما قرأت لكم أستاذنا كلما شعرت بضآلة ما نعلم وضخامة ما يجب أن نعلمه
أحسنت أستاذ خلف
حرف راق وقلم دائم الإبداع
سلمت يداك أستاذنا الفاضل
مقال مميز وجميل
ما فائدة القلم إذا لم يفتح فكرًا، أو يضمد جرحًا، أو يرقأ دمعةً، أو يطهر قلبًا، أو يكشف زيفًا، أو يبني صرحًا يَسْعَدُ في ظلاله الإنسان..
صدقتم وصدق!
بارك الله فيكم
نفع الله بكم وبعلمكم
أبدعت أستاذ خلف
مقال جيد ويستحق القراءة مرات ومرات..
مقال رائع جزيتم خيرا
سلمت يداك بالتوفيق