إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

صراع الخليفتين ( 2 – 2 )

وقفت في المقال السابق على سؤال : ما ( لا مَن ) الخليفتان اللذان خلفا الشعر ، وكيف دار الصراع بينهما ؟! ، وذلك بعد أن طرحت أمثالة وشواهد من التاريخ تثبت دور الشعر ورسالته الإعلامية في استثارة الناس ، وتغيّر بعض المفاهيم عندهم ، وقوّته الضاربة في أدلجة الفكر ، ولمن فاته المقال له أن يقرأه تحت هذا الرابط قبل الشروع في قراءة هذا الجزء إن أراد ليفهم المقصد.

https://www.alhtoon.com/113369/

فأقول : فبعد أن كان للشعر دور الغلبة لعدّة قرون في التغيّر والتغيير ، والتمكّن والتأثير ، ظهرت الصحافة في عالمنا العربي في بداية القرن الميلادي قبل الماضي ، وأخذت تسحب البساط شيئاً فشيئاً كقوّة أكثر تأثيراً من الشعر ، وذلك في طباعتها وأحبارها ، وأقلامها وإحبارها ، حتى كادت أن تكون الحقيقة المطلقة التي لا اختلاف في طرحها ، ومن بعدها ظهر المذياع ليأمر وينهى ، ويضلّل ويهدي ، ويُضحك ويُبكي ، ويعظ ويوصي ، خلف صوته الصادق مرّة والكاذب مرّات ، إلى أن جاء عصر التلفاز بصوته وصورته ليُرى الناس الحقيقة كما يراها من يُديره ، في أخباره وإخباره ، وحلقاته وملحقاته ، وتمثيله ومسلسلاته ، وبرامجه ومسرحياته ، عند مدحه وإطرائه ، أو قدحه واستهزائه ، إلى أن أتى عالم آخر من المغامرات الفضائية ، تباهت بمجارة ومجاورة النجوم ، وكأنّها تقول : وصلت بحقيقتي إلى أفق بعيد ، رغم المصارعة فيما بينها ، وذلك على شكل أطباق يُستقبل أثيرها بغثّه وسمينه على سطوح المنازل ، وظهور الأماكن ، وأفنية الدور ، بيد أنّ المرء العربي المتّزن أصبح يُميّز ولا يتحيّز قوله ، ويقود ولا ينقاد عقله ، ويقيس ولا يتقوّس فكره ، لأنّ ميزان العدل فطرة عنده ، فلذا هو متّزن !!. ، فأقول :

تحرّى ولا تعجل وقارن مُحَاوِراً

   لرأيك عــقـلاً من مـزيّتـهِ الـعـدلُ

فأصبحت المغامرات تغزو عقول الأرض ، لتُقلّب الحقّ ، فمرّةً تميّعه باسمه ، وتارةً تلمّعه باسم غيره ، وحيناً تشرعنه لمُضي باطل ، وآونةً تشيطنه لحجب شمسه ، وذلك على ما تهبّ به عاصفة الهوى ، وتبحر به سفينة الجوى عند من يقودها ، لا رغبة فيه لمصالح الناس ، ولا رغبة عنه لما يفسدهم ، وفي المتناقضات ما تقف قدم المتأمّل على شاطئ الصواب ، ومع هذا المتغيّر الذي حاول أن يقلب كثيراً من المفاهيم ، ظهر خليفةٌ يقف محاسباً أو منتقداً أو كاشفاً أو داحضاً ما تعرضه وتستعرضه قنوات الفضاء برومّتها ، وهذا الخليفة أصبح مستقلّاً في تفاعله ، مختصّاً في تواصله عبر كثير من قنواته الاجتماعية ( تويتر ، السناب ، الانستغرام ، …. الخ ) فأصبح الصراع بين الأرض والسماء ، تلك تشيع وهذه تنفي ، وتلك تنفي وهذه تثبت ، وتلك تثبت وهذه تردّ الحجّة بالحجّة ، حتى أصبحت الحقيقة تُرى في أشعة ليست كالشمس ولكنها أقوى في إشعاعها حين تُسفر عنها الهواتف الذكيّة ، فلسان حال الصراع أشبه بقول الشاعر الليبي إبراهيم الأسطى :

فظنّوا أنْهــم بلــغوا منـاهم

    بهذا الفـعل أو خدعوا الأناما

ولكنّ الحـــقــيقــة إذ تـبدّت

    أماطــت عن خِـداعهم اللثاما

وممّا يثبت تأثير مساحة الأرض فتح الحسابات لكثير من قنوات الفضاء بين وسائل التواصل الاجتماعي في قنوات متعدّدة ، لعلّ تأثيرها يبقى باقترابها مع عزوف كثير من الناس عن مشاهدة بثّها عبر الفضاء ، ولعلّ ما جرى في الأسبوع الماضي من طعنٍ في أحاديث صحيح البخاري يظلّ شاهداً على قوّة تأثير وسائل التواصل في الذبّ والدفاع عن سيرة وعلم وعمل هذا الإمام العظيم ، فكم رفع الله البخاري وهو في قبره ، وأسقط من طعن به وهو في برجه ! ، ومن الشواهد كذلك توقّف بعض كتّاب الصحف الورقية وانخراط كتابتهم تحت ظلال الصحف الالكترونية بدعوى تراجع تأثير الأولى شعبياً ، وفيما يبدو أنّ زمان صحف الورق بدأ بالأفول ياشاعرنا الكبير أحمد شوقي إذ قلت في زمنك :

لـــكــلّ زمــــــانٍ مــــضــى آيـــةٌ

      وآيـةُ هـذا الزمـان الصـحـفْ

لســـانُ البــلادِ ، ونبضُ العبادِ

     وكهفُ الحقوقِ وحربُ الجنفْ

تسيرُ مسيرَ الضحى في البلاد

     إذا العــلم مزّق فــيها الـسدفْ

وكفى من وسائل التواصل الاجتماعي أنّها نزعت الأقنعة ، ومدّت الأشرعة ، فأظهرت الإبداع ، وواصلت الإمتاع ، ونادت بالحوار دون قيد ، وكشفت الحقّ دون ريب ، وأبرزت الصديق من العدوّ ، وأفرزت الجودة من الزيف ، فجعلت للعقل مساحة للموازنة والتفكير ، ومسافة للتأويل والتحليل ، دون خارطة طريق تفرضها قنوات الأفك ، وأقمار الظُلمة ، ولا يقف التظليل الفضائي على ثقافة معينة دون أخرى ، فالدين والأدب والرياضة والاقتصاد وغيرها الكثير لها نصيب من ذلك ، ولا يعني هذا براءة ساحة وسائل التواصل من الغُثاء والجُفاء والزبَد ، ففيها من المناقع ما أخبثته حمّى المواقع ، وليُفهم القصد ليس ما ذكرته عن الفضاء على إطلاقه ، لكنه يلمس الواقع في أكثر وأغلب آفاقه ، والحقّ دوّار بين سقف السحاب وبين وجه التراب ، وهنا أطرح سؤالاً يردفه سؤالان :

هل غاب دور الشعر في كونه مؤثراً ؟!

إلى متى الفضاء يفضح نفسه وهو المكشوف لأديم الأرض ؟!

هل من خليفةٍ ثالث سيزاحم صراع الخليفتين اللذين ذكرتهما ؟!

هذا ما سيقوله المستقبل لنا في قادم الأيام !. والله أعلم …

– فاصلة منقوطة ؛

لا شيء أرقّ من الماء ، ولا شيء أقسى منه وأعنف حقاً ، إنّ الحقيقة تبدو مثل ضدها. ( لاوتزه ، فيلسوف صيني ).

———————————

إبراهيم الوابل – أبو سليمان

ibrahim7370@

الاثنين – الموافق

11 – 7 – 1440هـ

18 – 3 – 2019م

مقالات ذات صلة

‫20 تعليقات

  1. تحرّى ولا تعجل وقارن مُحَاوِراً

    لرأيك عــقـلاً من مـزيّتـهِ الـعـدلُ

    جميل جدا

  2. فظنّوا أنْهــم بلــغوا منـاهم

    بهذا الفـعل أو خدعوا الأناما

    ولكنّ الحـــقــيقــة إذ تـبدّت

    أماطــت عن خِـداعهم اللثاما

    صدقت أستاذنا

  3. فأصبحت المغامرات تغزو عقول الأرض ، لتُقلّب الحقّ ، فمرّةً تميّعه باسمه ، وتارةً تلمّعه باسم غيره ، وحيناً تشرعنه لمُضي باطل ، وآونةً تشيطنه لحجب شمسه.
    صدقت أستاذنا

  4. لـــكــلّ زمــــــانٍ مــــضــى آيـــةٌ

    وآيـةُ هـذا الزمـان الصـحـفْ

    لســـانُ البــلادِ ، ونبضُ العبادِ

    وكهفُ الحقوقِ وحربُ الجنفْ

    تسيرُ مسيرَ الضحى في البلاد

    إذا العــلم مزّق فــيها الـسدفْ

    رائع جدا، ودائما ما تثري مقالاتك بأبيات شعرية رائعة، تحياتي لك أستاذنا.

  5. بارك الله فيك أيها العزيز وتثقبل منك عبارات معبرة وتناول جيد للموضوع تحياتي..

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88