إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

بين أنقاض بيت

قال الشاعر العباسي سَلْم الخاسر :

لا تَسأَلِ المَرءَ عَن خَلائِقِهِ

      في وَجهِهِ شاهِدٌ عَنِ الخَبَرِ

حفظت هذا البيت وفهمته وأنا ابن المتوسطة ، لا أدري هل لخفة وزنه ؟ ، أم لرقة حرفه ؟ ، أم لسهولة مبناه ؟ ، أم لعفويّة معناه ؟. ، فالبيت كما ترى مبتدؤه النهي والزجر ، ومنتهاه النبأ والخبر ، حويّته بساطة في الحكمة ، ونسيجه خيوطٌ من المظنّة !.

لكن لم تسعني تجربته حتى بلغت من العمر ما أجبرتني مدرسة الحياة على إدراك دروسها ، فكثير من دروسها يخرج بوجهٍ يخالف أو تكاد أن توافق قول الشاعر ، بل أراها في كثير من الأحيان تكون مناهضةً لرؤيته ولواقع معنى بيته الذي بناه على شفا جُرف هار !. قال الشاعر اللغوي اللبناني أحمد فارس الشدياق:

ففي صروفِ الليالي منتهى عِبرٍ

     وفي التجـاربِ ما يُـغنى عن الخـبرِ

فليس كلّ ابتسامة يرسمها السُعْد ، ولا كلّ دمعة يذرفها الحُزْن ، كما ليس كلّ من اهترى ملبسه واسترقعه ، فوقف عند باب المسجد واستنفعه ، يلزم من ذلك أن يكون مُعدماً فقيراً ، عصف به العيش عصفاً عسيراً ، ورُبّ غنيّ في لباس بخيل ؛ صوّرَ لنا ببخله الخفيّ فقره الكاذب واستجداءه الماكر واستعطافه الظاهر على قلوب الناس ، فهذا مقامٌ تعجز عن تأكيد خِبّ خبره العيون ، فكيف إذن في نيّة تعجز عن إبصارها الصدور !. قال الشاعر العباسي ربيعة الرقي :

ترى الرجلَ النحيفَ فتزدريهِ 

     وفي أثــوابـهِ أســدٌ هـصـــورُ 

ولا أشكّ أنّ بيت الشاعر سَلْم الخاسر بات في فكري بيتاً أرِمَ عظمه فتفتّت ، حتى ذرته التجربة والواقع ، ليكون هباءً قد انتهت مدة صلاحيته بالنسبة لي ، فأصبح من الماضي خبراً ، ومن جرّب عرف المقصد وأدرك أنّ المظهر ليس شرطاً أن يدلّ على المخبر ، وربّما كان للمظهر ملمسٌ ليّنٌ خلفه من المخبرِ ما هو أشدّ فتكاً من أنياب حيّة ، ولدغة عقرب ، وقضمة تمساح.

فلا تغرنّك الوجوه النضرة ما لم تجرّب أخلاقها ، ولا تخدعنّك الألسن المفوّه ما لم ترَ منها أفعالها ، فالأخلاق الفاضلة لا يزيّنها الملبس ولا سعة العلم ولا المأكل ولا المشرب ولا المركب .. والأخلاق الفاضلة تعامل راقٍ وإن كنتَ رثّ الثياب تدثّرت للجهل بجلباب !. ، وما هي بثيابٍ تُلبس فتُخلع فنُلبسها مَن نشاء ومتى نشاء على من نرتضي عنه ويرتضي عنا .. بل هي منهج قويم لا تحكمها نظرية الأهواء !.

كما أنّها لا ترتبط بدين وإن كان يقرّها ويتمّها بل ويُربيها ويحثّ عليها الإسلام ، فاقرأ إن شئت كيف كان السموأل يهودياً ويضرب به المثل عند العرب في الوفاء .. واقرأ إن أردت عن عفّة عثمان بن أبي طلحة في جاهلية شركه !. ، والبعض يتّهم الأخلاق الفاضلة … إذا أنت أنكرت المنكر … فمن الأخلاق الفاضلة أن نعرف المنكر وننهى عنه لنتجنّبه !.

وأخلاق المرء بالية ممزّقة وإن أظهرت حُسناً ؛ ما دام ضميره فقير صدق ! ، فالحسن هنا لا قيمة فيه لصاحبه ما دامت النية غير صادقة ولو انتفع به غيره ، فما أبهى الصدق في القلب إذا غمر الوجه بالضياء فأنطق اللسان بالبرّ وأكّد البرّ بالعمل … قال الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى ذاكراً كرم ممدوحه الذي كان يصل الناس دون شهرة يبحث عنها :

تَـراهُ إِذا مـا جِـئتَهُ مُـتَـهَلِّــلاً

    كَأَنَّكَ تُعطيهِ الَّذي أَنتَ سائِلُه

وَذي نَسَبٍ ناءٍ بَعيدٍ وَصَـلتَهُ

     بِمالٍ وَمـا يَدري بِأَنَّكَ واصِلُه

كما أنّ الألسن المفوّه تبقى صامتةً خرساء ما لم تجعل من منابرها منهجاً عملياً لأقوالها ، وربّ واجهة مضمار كانت أفصح وأبلغ وأنفذ في التأثير والتغيير من وجهاة منبر ليس منه إلّا التزلّف والتملّق والمداهنة في الخطابة والتعبير.

فاصلة منقوطة ؛

وسامةُ المرءِ في عقلٍ يزيّنهُ

… وحسنُ طلعتهِ قبحٌ إذا بخُلا

———

إبراهيم الوابل – أبو سليمان

ibrahim7370@

الاثنين – الموافق

6 – 6 – 1440هـ

11 – 2 – 2019م

مقالات ذات صلة

‫18 تعليقات

  1. السلام عليكم ورحمة اللة وبركاته
    أستاذي الكريم إبراهيم الوابلي
    طرح جميل جدا
    والرجل بآدابه وليس بثيابه
    دمت سالما

  2. فالأخلاق الفاضلة لا يزيّنها الملبس ولا سعة العلم ولا المأكل ولا المشرب ولا المركب، حقيقة نعجز كثيرا عن فهمها واستيعابها.

  3. عنوان مميز (بين أنقاض بيت)، يصحبنا في رحلة بين جدرانه ثم يهزمه بمعول البيت الشعري جدارا جدارا وبالمنطق والحجة.

  4. لما تكتبه أثر جميل وزاهي وملون وترجمة مفيدة
    منذ قريب دخلت هذه الصحيفة الجميلة وسعدت بقراءة كتابات كثيرة ومنها كتابتك وكلماتك تلامس شيء في قلبي كثيراً ♡ أشكركم بعمق

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88